الرئيسية التسجيل التحكم

عدد الضغطات : 322
عدد الضغطات : 2,029
عدد الضغطات : 4,427عدد الضغطات : 0عدد الضغطات : 2,768

 
العودة   منتديات سلايل عبس | بني رشيد >

المنتديات العامة

> المكتبة الدينية
التعليمـــات قائمة الأعضاء التقويم


إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 08-26-2010, 04:45 AM   #25
فريق المتابعة والتنظيم


الصورة الرمزية رمسيس
رمسيس متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 882
 تاريخ التسجيل :  Apr 2009
 أخر زيارة : 06-27-2024 (12:40 PM)
 المشاركات : 3,500 [ + ]
 التقييم :  309
 الدولهـ
Saudi Arabia
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Sienna
 

افتراضي



ذكر عمارة بيت المقدس بعد خرابها واجتماع الملأ من بني إسرائيل بعد تفرقهم في بقاع الأرض وشعابها
ذكر عمارة بيت المقدس بعد خرابها واجتماع الملأ من بني إسرائيل بعد تفرقهم في بقاع الأرض وشعابها
قال الله تعالى في كتابه المبين وهو أصدق القائلين :" أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير ".
قال هشام بن الكلبي : ثم أوحى الله تعالى إلى أرميا عليه السلام فيما بلغني : إني عامر بيت المقدس فاخرج إليهم فانزلها . فخرج حتى قدمها وهي خراب ، قال في نفسه : سبحان الله . . أمرني الله أن أنزل هذه البلدة وأخبرني أنه عامرها فمتى يعمرها ومتى يحييها الله بعد موتها ؟ !
ثم وضع رأسه فنام ومعه حماره وسلة من طعام فمكث في نومه سبعين سنة حتى هلك بختنصر والملك الذي فوقه وهو لهراسب ، وكان ملكه مائة وعشرين سنة ، وقام بعده ولده بشتاسب بن لهراسب ، وكان موت بختنصر في دولته فبلغه عن بلاد الشام أنها خراب ، وأن السباع قد كثرت في أرض فلسطين فلم يبق بها من الإنس أحد ، فنادى في أرض بابل في بني إسرائيل : أن من شاء أن يرجع إلى الشام فليرجع . وملك عليهم رجلاً من آل داود وأمره أن يعمر بيت المقدس ويبني مسجدها فرجعوا فعمروها ، وفتح الله لأرميا عينيه فنظر إلى المدينة كيف تبنى وكيف تعمر ، ومكث في نومه ذلك حتى تمت له مائة سنة . ثم بعثه الله وهو لا يظن أنه نام أكثر من ساعة وقد عهد المدينة خراباً فلما نظر إليها عامرة آهلة قال :" أعلم أن الله على كل شيء قدير ".
قال : فأقام بنو إسرائيل بها ورد الله عليهم أمرهم فمكثوا كذلك حتى غلبت عليهم الروم في زمن ملوك الطوائف ، ثم لم يكن لهم جماعة ولا سلطان يعني بعد ظهور النصارى عليهم ، هكذا حكاه ابن جرير في تاريخه عنه ، وذكر ابن جرير أن لهراسب كان ملكاً عادلاً سائساً لمملكته قد دانت له العباد والبلاد والملوك والقواد وأنه كان ذا رأي جيد في عمارة الأمصار والأنهار والمعاقل ، ثم لما ضعف عن تدبير المملكة بعد مائة سنة ونيف نزل عن الملك لولده بشتاسب ، فكان في زمانه ظهور دين المجوسية وذلك أن رجلاً اسمه زرادشت كان قد صحب أرميا عليه السلام فأغضبه فدعا عليه أرميا عليه السلام فبرص زرادشت فذهب فلحق بأرض أذربيجان وصحب بشتاسب فلقنه دين المجوسية الذي اخترعه من تلقاء نفسه فقبله منه بشتاسب ، وحمل الناس عليه وقهرهم وقتل منهم خلقاً كثيراً ممن أباه منهم .
ثم كان بعد بشتاسب بهمن بن بشتاسب وهو من ملوك الفرس المشورين والأبطال المذكورين وقد ناب بختنصر لكل واحد من هؤلاء الثلاثة وعمر دهراً طويلاً قبحه الله .
والمقصود أن هذا الذي ذكره ابن جرير من أن هذا المار على هذه القرية هو أرميا عليه السلام ، قاله وهب بن منبه ، وعبد الله بن عبيد بن عمير وغيرهما . وهو قوي من حيث السياق المتقدم ، وقد روى عن علي وعبد الله بن سلام وابن عباس والحسن وقتادة والسدي وسليمان بن بردة وغيرهم أنه عزير . وهذا أشهر عند كثير من السلف والخلف . . والله أعلم .


قصة العزير
قصة العزير
قال الحافظ أبو القاسم بن عساكر : هو عزير بن جروة ، ويقال ابن سوريق بن عديا بن أيوب بن درزنا عن عدي بن تقي بن أسبوع بن فنحاص بن العاذر بن هارون بن عمران ويقال : عزير بن سروخا جاء في بعض الآثار أن قبره بدمشق ثم ساق من طريق أبي القاسم البغوي عن داود بن عمرو ، عن حبان بن علي ، عن محمد بن كريب ، عن أبيه ، عن ابن عباس مرفوعاً : لا أدري العزير بيع أم لا ، ولا أدري أعزير كان نبياً أم لا
ثم رواه من حديث مؤمل بن الحسن ، عن محمد بن إسحاق السجزي ، عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن ابن أبي ذئب ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة مرفوعاً نحوه
ثم روى من طريق إسحاق بن بشر ، وهو متروك عن جويبر ومقاتل ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : أن عزيراً كان ممن سباه بختنصر وهو غلام حدث ، فلما بلغ أربعين سنة أعطاه الله الحكمة قال : ولم يكن أحد أحفظ ولا أعلم بالتوراة منه قال : وكان يذكر مع الأنبياء حتى محا الله اسمه من ذلك حين سأله ربه عن القدر
وهذا ضعيف ومنقطع ومنكر والله أعلم
وقال إسحاق بن بشر ، عن سعيد ، عن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن عبد الله ابن سلام ، أن عزيراً هو العبد الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه
وقال إسحاق بن بشر : أنبأنا سعيد بن بشير ، عن قتادة ، عن كعب وسعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن الحسن ومقاتل وجويبر عن الضحاك ، عن ابن عباس وعبد الله بن إسماعيل السدي عن أبيه ، عن مجاهد ، عن ابن عباس وإدريس ، عن جده وهب بن منبه ، قال إسحاق : كل هؤلاء حدثوني عن عديث عزير ، وزاد بعضهم على بعض قالوا بإسنادهم : إن عزيراً كان عبداً صالحاً خرج ذات يوم إلى ضيعة له يتعاهدها ، فلما انصرف أتى إلى خربة حين قامت الظهيرة وأصابه الحر ، ودخل الخربة وهو على حمار فنزل عن حماره ومعه سلة فيها تين وسلة فيها عنب ، فنزل في ظل الخربة وأخرج قصعة معه فاعتصر من العنب الذي كان معه في القصعة تثم أخرج خبزاً يابساً معه فألقاه في تلك القصعة في العصير ليبتل ليأكله ، ثم استلقى على قفاه وأسند رجليه إلى الحائط فنظر سقف تلك البيوت ورأى ما فيها وهي قائمة على عروشها وقد باد أهلها ورأى عظاماً بالية فقال :" أنى يحيي هذه الله بعد موتها " فلم يشك أن الله يحييها ولكن قالها تعجباً فبعث الله ملك الموت فقبض روحه ، فأماته الله مائة عام
فلما أتت عليه مائة عام ، وكانت فيما بين ذلك في بني إسرائيل أمور وأحداث قال : فبعث الله إلى عزير ملكاً فخلق قلبه ليعقل به وعينيه لينظر بهما فيعقل كيف يحيي الله الموتى ثم ركب خلفه وهو ينظر ، ثم كسى عظامه اللحم والشعر والجلد ثم نفخ فهي الروح ، كل ذلك وهو يرى ويعقل ، فاستوى جالساً فقال له الملك : كم لبثت ؟ قال : لبثت يوماً أو بعض يوم ، وذلك أنه كان لبث صدر النهار عند الظهيرة وبعث في آخر النهار والشمس لم تغب ، فقال : أو بعض يوم ولم يتم لي يوم فقال له الملك : بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك ، يعني الطعام الخبز يابس ، فذلك قوله : " لم يتسنه " يعني لم يتغير ، وكذلك التين والعنب غض لم يتغير شيء من حالهما ، فكأنه أنكر في قلبه فقال له الملك : أنكرت ما قلت لك ؟ فانظر إلى حمارك فنظر إلى حماره قد بليت عظامه وصارت نخرة فنادى الملك عظام الحمار فأجابت وأقبلت من كل ناحية حتى ركبه الملك وعزير ينظر إليه ثم ألبسها العروق والعصب ، ثم كساها اللحم ثم أنبت عليها الجلد والشعر ، ثم نفخ فيه الملك فقام الحمار رافعاً رأسه وأذنيه إلى السماء ناهقاً يظن القيامة قد قامت فذلك قوله :" وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما " يعني وانظر إلى عظام حمارك كيف يركب بعضها بعضاً في أوصالها حتى إذا صارت عظاماً مصوراً حماراً يلا لحم ، ثم انظر كيف نكسوها لحماً :" فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير " من إحياء الموتى وغيره
قال : فركب حماره حتى أتى محلته فأنكره الناس وأنكر الناس ، وأنكر منزله ، فانطلق على وهم منه حتى أتى منزله ، فإذا هو بعجوز عمياء مقعدة قد أتى عليها مائة وعشرون سنة كانت أمة لهم ، فخرج عنهم عزير وهي بنت عشرين سنة كانت عرفته وعقلته ، فلما أصابها الكبر أصابها الزمانه ، فقال لها عزير : يا هذه أهذا منزل عزير ؟ قالت : نعم هذا منزل عزير فبكت وقالت : ما رأيت أحداً من كذا وكذا سنة يذكر عزيراً وقد نسيه الناس قال : فإني أنا عزير كان الله أماتني مائة سنة ثم بعثني قالت : سبحان الله ! فإن عزيراً قد فقدناه منذ مائة سنة فلم نسمع له بذكر قال : فإني أنا عزير قالت : فإن عزيراً رجل مستجاب الدعوة يدعو للمريض ولصاحب البلاء بالعافية والشفاء ، فادع الله أن يرد علي بصري حتى أراك فإن كنت عزيراً عرفتك
قال : فدعا ربه ومسح بيده على عينيها فصحتا وأخذ بيدها وقال : قومي بإذن الله فأطلق الله رجليها فقامت صحيحة كأنما نشطت من عقال فنظرت فقالت : أشهد أنك عزير
وانطلقت إلى محلة بني إسرائيل وهم في أنديتهم ومجالسهم ، وابن لعزير شيخ ابن مائة سنة وثماني عشر سنة وبني بنيه شيوخ في المجلس ، فنادتهم فقالت : هذا عزير قد جاءكم فكذبوها فقالت أنا فلانة مولاتكم دعا لي ربه فرد علي بصري وأطلق رجلي وزعم أن الله أماته مائة سنة ثم بعثه قال : فنهض الناس فأقبلوا إليه فنظروا إليه فقال ابنه : كان لأبي شامة سوداء بين كتفيه ، فكشف عن كتفيه فإذا هو عزير ، فقالت بنو إسرائيل : فإنه لم يكن فينا أحد حفظ التوراة فيما حدثنا غير عزير ، وقد حرق بختنصر التوراة ولم يبق منها شيء إلا ما حفظت الرجال ، فاكتبها لنا وكان أبوه سروخا قد دفن التوراة أيام بختنصر في موضع لم يعرفه أحد غير عزير ، فانطلق بهم إلى ذلك الموضع فحفره فاستخرج التوراة وكان قد عفن الورق ودرس الكتاب
قال : وجلس في ظل شجرة وبنو إسرائيل حوله فجدد لهم التوراة ونزل من السماء شهابان حتى دخلا جوفه ، فتذكر التوراة فجددها لبني إسرائيل ، فمن ثم قالت اليهود : عزير ابن الله ، للذي كان من أمر الشهابين وتجديده التوراة وقيامه بأمر بني إسرائيل ، وكان جدد لهم التوراة بأرض السواد بدير حزقيل ، والقرية التي مات فيها يقال لها سايراباذ
قال ابن عباس : فكان كما قال الله تعالى : " ولنجعلك آية للناس " يعني لبني إسرائيل ، وذلك أنه كان يجلس مع بنيه وهم شيوخ وهو شاب لأنه مات وهو ابن الأربعين سنة ، فبعثه الله شاباً كيئته يوم مات قال ابن عباس : بعث بعد بختنصر وكذلك قال الحسن
وقد أنشد أبو حاتم السجستاني في معنى ما قاله ابن عباس :
اسود رأس شاب من قبله ابنه ومن قبله ابن ابنه فهو أكبر
يرى ابنه شيخاً يدب على العصا وليحته سوداء والرأس أشقر
وما لابنه حيل ولا فضل قوة يقوم كما يمشي الصبي فيعثر
يعد ابنه في الناس تسعين حجة وعشرين لا يجري ولا يتبختر
وعمر أبيه أربعون أمرها ولابن ابنه تسعون في الناس غبر
فما هو في المعقول إن كنت دارياً وإن كنت لا تدري فبالجهل تعذر
فصل
المشهور أن عزيراً نبي من أنبياء بني إسرائيل ، وأنه كان فيما بين داود وسليمان وبين زكريا ويحيى ، وأنه لما لم يبق في بني إسرائيل من يحفظ التوراة ألهمه الله حفظها فسردها على بني إسرائيل ، كما قال وهب بن منبه : أمر الله ملكاً فنزل بمغرفة من نور فقذفها في عزير فنسخ التوراة حرفاً حتى فرغ منها
وروى ابن عساكر عن ابن عباس أنه سأل عبد الله بن سلام عن قول الله تعالى :" وقالت اليهود عزير ابن الله " لم قالوا ذلك ؟ فذكر له ابن سلام ما كتبه لبني إسرائيل التوراة من حفظه ؟ وقول بني إسرائيل : لم يستطع موسى أن يأتينا بالتوراة إلا في كتاب وإن عزيراً قد جاءنا بها من غير كتاب فرماه طوائف منهم وقالوا : عزير ابن الله
ولهذا يقول كثير من العلماء : إن تواتر التوراة انقطع في زمن العزير
وهذا متجه جداً إذا كان العزير غير نبي كما قاله عطاء بن أبي رباح والحسن والبصري وفيما رواه إسحاق بن بشر عن مقاتل بن سليمان ، عن عطاء ، وعن عثمان بن عطاء الخرساني عن أبيه ، ومقاتل عن عطاء ابن أبي رباح قال : كان في الفترة تسعة أشياء : بختنصر وجنة صنعاء وجنة سبأ وأصحاب الأخدود وأمر حاصورا وأصحاب الكهف وأصحاب الفيل ومدينة أنطاكية وأمر تبع
وقال إسحاق بن بشر : أنبانا سعيد ، عن قتادة عن الحن قال : كان أمر عزير وبختنصر في الفترة
وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال :" إن أولى الناس بابن مريم لأنا ، إنه ليس بيني وبينه نبي "
وقال وهب بن منبه : كان فيما بين سليمان وعيسى عليهما السلام
وقد روى ابن عساكر عن أنس بن مالك وعطاء بن السائب أن عزيراً كان في زمن موسى ابن عمران ، وأنه استأذن عليه فلم يأذن له ، يعني لما كان من سؤاله عن القدر ، وأنه انصرف وهو يقول : مائة موتة أهون من ذلك ساعة
وفي معنى قول عزير : مائة موتة أهو من ذل ساعة قول بعض الشعراء :
قد يصبر الحر على السيف ويأنف الصبر على الحيف
ويؤثر الموت على حالة يعجز فيها عن قرى الضيف
فأما ما روى ابن عساكر وغيره عن ابن عباس ونوف البكالي وسفيان الثوري وغيرهم ، من أنه سأل عن القدر فمحي اسمه من ذكر الأنبياء ، فهو منكر وفي صحته نظر ، وكأنه مأخود من الإسرائيليات
وقد روى عبد الرزاق وقتيبة بن سعيد ، عن جعفر بن سليمان ، عن أبي عمران الجوني ، عن نوف البكالي قال : قال عزير فيما يناجي به : يا رب تخلق خلقاً فتضل من تشاء وتهدي من تشاء ؟ فقيل له : أعرض عن هذا فعاد فقيل له : لتعرضن عن هذا أو لأمحون اسمك من الأنبياء إني لا أسأل عما أفعل وهم يسألون وهذا يقتضي وقوع ما توعد عليه لما عاد فما محى
وقد روى الجماعة سوى الترمذي من حديث يونس عن يزيد ، عن سعيد وأبي سلمة ، عن أبي هريرة ، وكذلك رواه شعيب عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :" نزل نبي من الأنبياء تحت شجرة فلدغته نملة فأمر بجهازه فأخرج من تحتها ثم أمر بها فأحرقت بالنار ، فأوحى الله إليه : فهلا نملة واحدة " فروى إسحاق بن بشر عن ابن جريج ، عن عبد الوهاب بن مجاهد ، عن أبيه : أنه عزير ، وكذا روى عن ابن عباس والحسن البصري أنه عزير والله أعلم




قصة زكريا ويحيى عليهما السلام
قصة زكريا ويحيى عليهما السلام
قال الله تعالى في كتابه العزيز : بسم الله الرحمن الرحيم :" كهيعص * ذكر رحمة ربك عبده زكريا * إذ نادى ربه نداء خفيا * قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا * وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا * يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا * يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا * قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا * قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا * قال رب اجعل لي آية قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاث ليال سويا * فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا * يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا * وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا * وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا * وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا "
وقال تعالى :" وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب * هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء * فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين * قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك الله يفعل ما يشاء * قال رب اجعل لي آية قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار "
وقال تعالى في سورة الأنبياء :" وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين * فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين "
وقال تعالى :" وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين "
قال الحافظ أبو القاسم بن عساكر في كتابه التاريخ المشهور الحافل : زكريا بن برخيا ويقال زكريا بن دان ، ويقال زكريا بن لدن بن مسلم بن صدوق بن حشبان بن داود بن سليمان بن مسلم بن صديقة بن برخيا بن بلعطة بن ناحور بن شلوم بن بهفاشاط بن اينامن ابن رحيعام بن سليمان بن داود ، أبو يحيى النبي عليه السلام من نبي إسرائيل
دخل البثنة من أعمال دمشق في طلب ابنه يحيى وقيل إنه كان بدمشق حين قتل ابنه يحيى والله أعلم وقد قيل غير ذلك في نسبه ويقال فيه زكريا بالمد والقصر ، ويقال زكري أيضاً
والمقصود أن الله تعالى أمر رسوله (صلى الله عليه وسلم) أن يقص على الناس خبر زكريا عليه السلام وما كان من أمره حين وهبه الله ولداً على الكبر وكانت امرأته مع ذلك عاقراً في حال شبيبتها وقد أسنت أيضاً حتى لا ييأس أحد من فضل الله ورحمته ولا يقنط من فضله تعالى :" ذكر رحمة ربك عبده زكريا * إذ نادى ربه نداء خفيا " قال قتادة عند تفسيرها : إن الله يعلم القلب النقي ويسمع الصوت الخفي ، وقال بعض السلف : قام من الليل فنادى ربه مناداة أسرها عمن كان حاضراً عنده مخافته فقال : يا رب يا رب يا رب فقال الله : لبيك لبيك لبيك " قال رب إني وهن العظم مني " أي ضعف وخار من الكبر " واشتعل الرأس شيبا " استعارة من اشتعال النار في الحطب أي غلب على سواد الشعر شيبه كما قال ابن دريد في مقصورته :
أما ترى رأسي حاكى لونه طرة صبح تحت أذيال الدجا
واشتعل المبيض في مسوده مثل اشتعال النار في جمر الغضا
وآض عود اللهم يبساً ذاوياً من بعد ما قد كان مجاج الثرى
يذكر أن الضعف قد استحوذ عليه باطناً وظاهراً وهكذا قال زكريا عليه السلام :" إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا "
وقوله :" ولم أكن بدعائك رب شقيا " أي ما عودتني فيما أسألك إلا الإجابة وكان الباعث له على هذه المسألة أنه لما كفل مريم بنت عمران بن ماثان ، وكانت كلما دخل عليها محرابها وجد عندها فاكهة في غير إبانها ولا في أوانها وهذه من كرامات الأولياء ، فعلم أن الرزاق للشيء في غير أوانه قادر على ان يرزقه ولداً وإن كان قد طعن في سنه " هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء " وقوله :" وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا " قيل المراد بالموالي العصبة ، وكأنه خاف من تصرفهم بعده في بني إسرائيل بما لا يوافق شرع الله وطاعته فسأل وجود ولد من صلبه يكون براً تقياً مرضياً ولهذا قال :" فهب لي من لدنك " أي من عندك بحولك وقوتك " وليا * يرثني " أي في النبوة والحكم في بني إسرائيل " ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا " يعني كما كان آباؤه وأسلافه من ذرية يعقوب أنبياء فاجعله مثلهم في الكرامة التي أكرمتهم بها من النبوة والوحي ، وليس المراد هاهنا وراثة المال كما زعم ذلك من زعمه من الشيعة ووافقهم ابن جرير هاهنا وحكاه عن أبي صالح من السلف ، لوجوه :
أحدها : ما قدمناه عند قوله تعالى :" وورث سليمان داود " أي في النبوة والملك لما ذكرنا في الحديث المتفق عليه بين علماء الموري في الصحاح والمسانيد والسنن وغيرها من طرق عن جماعة من الصحابة أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال :" لا نورث ما تركنا فهو صدقة " فهذا نص على أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لا يورث ، ولهذا منع الصديق أن يصرف ما كان يختص به في حياته إلى أحد من ورثته الذين لولا هذا النص لصرف إليهم ، وهم ابنته فاطمة وأزواجه التسع وعمه العباس رضي الله عنهم ، تواحتج عليهم الصديق في منعه إياهم بهذا الحديث ، وقد وافقه على روايته عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن ابي طالب والعباس بن عبد المطلب وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وأبو هريرة وآخرون رضي الله عنهم
والثاني : أن الترمذي رواه بلفظ يعم سائر الأنبياء :" نحن معاشر الأنبياء لا نورث " وصححه
الثالث : أن الدنيا كانت أحقر عند الأنبياء من أن يكنزوا لها أو يلتفتوا إليها أو يهمهم أمرها حتى يسالوا الأولاد ليحوزوها بعدهم ، فإن من لا يصل إلى قريب من منازلهم في الزهادة لا يهتم بهذا المقدار أن يسأل ولداً يكون وارثاً له فيها
الرابع : أن زكريا عليه السلام كان نجاراً بعمل بيده ويأكل من كسبها ، كما كان داود عليه السلام يأكل من كسب يده ، والغالب ولا سيما من مثل حال الأنبياء أنه لا يجهد نفسه في العمل إجهاداً يستفضل منه مالاً يكون ذخيرة له ولمن يخلفه من بعده ، وهذا أمر بين واضح لكل من تأمله وتدبره وتفهمه إن شاء الله
قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، يعني ابن هارون ، أنبأنا حماد بن سلمة ن عن ثابت ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال :" كان زكريا نجاراً " وهكذا رواه مسلم و ابن ماجه من غير وجه ، عن حماد بن سلمة به
وقوله :" يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا " وهذا مفسر بقوله :" فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين "
فلما بشر بالولد وتحقق البشارة شرع يستعلم على وجه التعجب وجود الولد له والحالة هذه " قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا " أي كيف يوجد ولد من شيخ كبير ، قيل كان عمره إذ ذاك سبعاً وسبعين سنة ، والأشبه والله أعلم أنه كان أسد من ذلك " وكانت امرأتي عاقرا " يعني وقد كانت امرأتي في حال شبيبتها عاقراً لا تلد والله أعلم
كما قال الخليل :" أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون " وقالت سارة :" يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب * قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد "
وهكذا أجيب زكريا عليه السلام قال له الملك الذي يوحي إليه بأمر ربه :" كذلك قال ربك هو علي هين " أي هذا سهل يسير عليه " وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا " أي قدرته ، أوجدتك بعد أن لم تكن شيئاً مذكوراً أفلا يوجد منك ولد وإن كنت شيئاً ؟ !
وقال تعالى :" فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين " ومعنى إصلاح زوجته أنها كانت لا تحيض فحاضت وقيل كان في لسانها شيء ، أي بذاءة
" قال رب اجعل لي آية " أي علامة على وقت تعلق مني المرأة بهذا الولد المبشر به " قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاث ليال سويا " يقول علامة ذلك أن يعتريك سكت لا تنطق معه ثلاثة أيام إلا رمزاً وأنت في ذلك سوى الخلق صحيح المزاج معتدل البنية ، وأمر بكثرة الذكر في هذه الحال بالقلب واستحضار ذلك بفؤاده بالعشي والإبكار ، فلما بشر بهذه البشارة خرج مسروراً بها على قومه من محرابه " فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا " والوحي هاهنا هو الأمر الخفي إما بكتابة ، كما قاله مجاهد والسدي ، أو إشارة كما قاله مجاهد أيضاً ووهب وقتادة ، قال مجاهد وعكرمة ووهب والسدي وقتادة : اعتقل لسانه من غير مرض وقال ابن زيد : كان يقرأ ويسبح ولكن لا يستطيع كلام أحد
وقوله تعالى :" يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا " يخبر تعالى عن وجود الولد وفق البشارة الإلهية لأبيه زكريا عليه السلام وأن الله علمه الكتاب والحكمة وهو صغير في حال صباه
قال عبد الله بن المبارك : قال معمر : قال الصبيان ليحيى بن زكريا : اذهب بنا نلعب فقال : ماللعب خلقنا قال : وذلك قوله :" وآتيناه الحكم صبيا "
وأما قوله :" وحنانا من لدنا " فروى ابن جرير عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال : لا أدري ما الحنان وعن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة والضحاك : " وحنانا من لدنا " أي رحمة من عندنا رحمنا بها زكريا فوهبنا له هذا الولد ، وعن عكرمة : " وحنانا " أي محبة عليه ، ويحتمل أن يكون ذلكصفة لتحنن يحيى على الناس ولا سيما على أبويه ، وهو محتبهما والشفقة عليهما وبره بهما
وأما الزكاة فهو طهارة الخلق وسلامته من النقائص والرذائل والتقوى طاعة الله بامتثال أوامره وترك زواجره
ثم ذكر بره بوالديه وطاعته لهما أمراً ونهياً وترك عقوقهما قولاً وفعلاً فقال :" وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا " ثم قال " وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا " هذه الأوقات الثلاثة أشد ما تكون على الإنسان ، فإنه ينتقل في كل منها من عالم إلى عالم آخر ، فيفقد الأول بعد ما كان ألفه وعرفه ، ويصير إلى الأخر ولا يدري ما بين يديه ، ولهذا يستهل صارخاً إذا خرج من بين الأحشاء وفارق لينها وضمها ، وينتقل إلى هذه الدار ليكابد همومها وغمها !
وكذلك إذا فارق هذه الدار وانتقل إلى عالم البرزخ بينهما وبين دار القرار ، وصار بعد الدور والصور إلى عرصة الأموات سكان القبور ، وانتظر هناك النفخة في الصور ليوم البعث والنشور ، فمن مسرور ومحبور ومن محزون ومثبور ، وما بين جيبر وكسير وفريق في الجنة وفريق في السعير ، ولقد أحسن بعض الشعراء حيث يقول :
ولدتك أمك باكياً مستصرخاً والناس حولك يضحكون سرورا
فاحرص لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسرورا
ولما كانت هذه الواطن الثلاثة أشق ما تكون على ابن آدم سلم الله على يحيى في كل مواطن منها فقال :" وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا "
وقال سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة أن الحسن قال : إن يحيى وعيسى التقيا ، فقال له عيسى : استغفر لي أنت خير مني ، فقال له الآخر : استغفر لي أنت خير مني ، فقال له عيسى : أنت خير مني سلمت على نفسير وسلم الله عليك فعرف والله فضلهما
وأما قوله في الآية الأخرى :" وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين " فقيل المراد بالحصور الذي لا يأتي النساء ، وقيل غير ذلك ، وهو أشبه لقوله :" هب لي من لدنك ذرية طيبة "
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا عفان : حدثنا حماد ، أنبأنا علي بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال :" ما من أحد من ولد آدم إلا وقد أخطأ أو هم بخطيئة ليس يحيى بن زكريا ، وما ينبغي لأحد يقول أنا خير من يونس بن متى "
علي بن زيد بن جدعان تكلم فيه غير واحد من الأئمة ، وهو منكر الحديث وقد رواه ابن خزيمة والدارقطني من طريق أبي عاصم العباداني ، عن علي بن زيد بن جدعان به مطولاً ثم قال ابن خزيمة : وليس على شرطنا
وقال ابن وهب : حدثني بن لهيعة ، عن عقيل ، عن ابن شهاب ، قال : خرج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على أصحابه يوماً وهم يتذاكرون فضل الأنبياء فقال قائل : موسى كليم الله وقال قائل : عيسى روح الله وكلمته ، وقال قائل : إبراهيم خليل الله ، وهم يذكرون ذلك فقال :" أين الشهيد بن الشهيد ، يلبس الوبر ويأكل الشجر مخافة الذنب " قال ابن وهب : يريد يحيى بن زكريا
وقد رواه محمد بن إسحاق وهو مدلس ، عن يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن سعيد بن المسيب ، حدثني ابن العاص ، أنه سمع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول :" كل ابن آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب إلا ما كان من يحيى بن زكريا "
فهذا من رواية ابن إسحاق وهو من المدلسين وقد عنعن هاهنا
ثم قال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب مرسلاً
ثم رأيت ابن عساكر ساقه من طريق أبي أسامة ، عن يحيى بن سعيد الأنصاري ، ثم رواه ابن عساكر من طريق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني خطيب دمشق : حدثنا محمد بن الأصبهاني ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، عن عبد الله ابن عمرو قال : ما أحد إلا يلقى الله بذنب إلا يحيى بن زكريا ثم تلا " وسيدا وحصورا " ثم رفع شيئاً من الأرض فقال : ما كان معه إلا مثل هذا ، ثم ذبح ذبحاً !
وهذا موقوف من هذا الطريق وكونه موقوفاً أصح من رفعه والله أعلم ، وأورده ابن عساكر من طرق عن معمر : من ذلك ما أورده من حديث إسحاق بن بشر ، وهو ضعيف ، عن عثمان بن ساج ، عن ثور بن يزيد ، عن خالد بن معدان ، عن معاذ عن النبي (صلى الله عليه وسلم) بنحوه
وروى عن طريق أبي داود الطيالسي وغيره ، عن الحكم بن عبد الرحمن بن أبي نعيم ، عن أبيه ،عن أبي سعيد قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :" الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة إلا ابني الخالة يحيى وعيسى عليهما السلام "
وقال أبو نعيم الحافظ الأصبهاني : حدثنا إسحاق بن أحمد ، حدثنا إبراهيم بن يوسف ، حدثنا أحمد بن أبي الحواري ، سمعت أبا سليمان يقول : خرج عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا يتماشيان ، فصدم يحيى امرأة فقال له عيسى : يا ابن خالة لقد أصبت اليوم خطيئة ما أظن أنه يغفر لك أبداً قال : وما هي يا ابن خالة ؟ قال : امرأة صدمتها قال : والله ما شعرت بها قال : سبحان الله بدنك معي فأين روحك ؟ قال : معلق بالعرش ولو أن قلبي اطمأن إلى جبريل لظننت أني ما عرفت الله طرقة عين فيه غرابة وهو من الإسرائيليات
وقال إسرائيل عن أبي حصين ، عن خيثمة ، قال : كان عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا ابني خالة وكان عيسى يلبس الصوف وكان يحيى يلبس الوبر ولم يكن لواحد منهما دينار ولا درهم ولا عبد ولا أمة ولا مأوى يأويان إليه ، أين ما جنهما الليل أويا ، فلما أرادا أن يتفرقا قال يحيى : أوصني قال : لا تغضب قال : لا أستطيع إلا أن أغضب قال : لا تقتن مالاً قال : أما هذه فعسى
وقد اختلفت الرواية عن وهب بن منبه : هل مات زكريا عليه السلام موتاً أو قتل قتلاً ؟ على روايتين فروى عبد المنعم بن إدريس بن سنان ، عن أبيه ، عن وهب بن منبه ، أنه قال : هرب من قومه فدخل شجرة فجاءوا فوضعوا المنشار عليهما ، فلما وصل المنشار إلى أضلاعه أن ، فأوحى الله إليه : لئن لم يسكن انينك لأقلبن الأرض ومن عليها فسكن أنينه حتى قطع باثنتين
وقد روى هذا في حديث مرفوع سنورده بعد إن شاء الله
وروى إسحاق بن بشر ، عن إدريس بن سنان ، عن وهب أنه قال : الذي انصدعت له الشجرة هو شعيا ، فأما زكريا فمات موتاً فالله أعلم
وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، أنبأنا أبو خلف موسى بن خلف ، - وكان يعد من البدلاء - حدثنا يحيى بن أبي كثير ، عن زيد بن سلام ، عن جده ممطور ، عن الحارث الأشعري أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال : إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بهن وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن ، فإما أن تبلغهن وإما أن أبلغهن فقال : يا أخي إني أخشى إن سبقتني أن أعذب أويخف بي قال : فجمع يحيى بني إسرائيل في بيت المقدس حتى امتلأ المسجد فقعد على الشرف فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إن الله عز وجل أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وآمركن أن تعملوا بهن وأولهن أن تعبدوا الله لا تشركوا به شيئاً ، فإن مثل ذلك مثل من اتشرى عبداً من خالص ماله بورق أو ذهب فجعل يعمل ويؤدي غلبته إلى غير سيده ، فأيكم يسره أن يكون عبده كذلك ، وإن الله خلقكم ورزقكم فاعدوه ولا تشركوا به شيئاً
آمركم بالصلاة فإن الله ينصب وجه قبل عبده مالم يلتفت فإذا صليتم فلا تلتفتوا
وآمركم بالصيام فإن الله مثل ذلك كمثل رجل معه صرة من مسك في عصابة كلهم يجد ريح المسك ، وإن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك
وآمركم بالصدقة ، فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فشدوا يده إلى عنقه وقدموه ليضربوا عنقه فقال : هل لكم أن أفتدي نفسي منكم فجعل يفتدي نفسه منهم بالقليل والكثير حتى فك نفسه
وآمركم بذكر الله عز وجل كثيراً ، فإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعاً في أثره فأتى حصناً حصيناً فتحصن فيه ، وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله عز وجل
قال : وقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :" وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن : بالجماعة والسمع والطاعة والهجرة والجهاد في سبيل الله ، فإن من خرج عن الجماعة قيد شبر فقد خلق ربق الإسلام من عنقه إلا أن يرجع ، ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من حثا جهنم ، قال : يا رسول الله وإن صام وصلى ؟ قال : وإن صام بدعوى الجاهلية وزعم أنه مسلم ، ادعوا المسلمين بأسمائهم بما سماهم الله عز وجل المسلمين المؤمنين عباد الله عز وجل "
وهكذا رواه أبو يعلى عنهدبة بن خالد ،عن أبان بن زيد ، عن يحيى بن أبي كثير به وكذلك رواه الترمذي من حديث أبي داود الطيالسي وموسى بن إسماعيل ، وكلاهما عن أبان بن يزيد العطار به ، ورواه ابن ماجه عن هشام بن عمار ، عن محمد بن شعيب بن سابور ، عن معاوية بن سلام عن أخيه زيد بن سلام ، عن أبي سلام ، عن الحارث الأشعري به ، ورواه الحاكم من طريق مروان بن محمد الطاطري ، عن معاوية بن سلام ، عن أخيه به ثم قال : تفرد به مروان الطاطري ، عن معاوية بن سلام
قلت : وليس كما قال ورواه الطبراني عن محمد بن عبدة ، عن أبي توبة الربيع بن نافع ، عن معاوية بن سلام ، عن أبي سلام ، عن الحارث الأشعري فذكر نحوه فسقط ذكر زيد بن سلام ، عن أبي سلام ، عن الحارث الأشعري فذكر نحو هذه الرواية
ثم روى الحافظ ابن عساكر من طريق عبد الله بن أبي جعفر الرازي ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، قال : ذكر لنا عن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيم سمعوا من علماء بني إسرائيل أن يحيى بن زكريا أرسل بخمس كلمات وذكر نحون ما تقدم
وقد ذكروا أن يحيى عليه السلام كان كثير الانفراد من الناس ، إنما كان يأنس إلى البراري ويأكل من ورق الأشجار ويرد ماء الأنهار ويتغذى بالجراد في بعض الأحيان ، ويقول : من أنعم منك يا يحيى ؟
وروى ابن عساكر أن أبويه خرجا في تطلبه فوجداه عند بحيرة الأردن فلما اجتمعا به أبكاهما بكاء شديداً لما هو فيه من العبادة والخوف من الله عز وجل
وقال ابن وهب عن مالك ، عن حميد بن قيس عن مجاهد قال كان طعام يحيى بن زكريا العشب ، وإنه كان ليبكي من خشية الله حتى لو كان القار على عينيه لخرقه
وقال محمد بن يحيى الذهلي : حدثنا الليث ، حدثني عقيل ، عن ابن شهار ، قال : جلست يوماً إلى أبي إدريس الخولاني وهو يقص فقال : ألا أخبركم بمن كان أطيب الناس طعاماً ؟ فلما رأى الناس قد نظروا إليه قال : إن يحيى بن زكريا كان أطيب الناس طعاماً ؟ إنما كان يأكل مع الوحش كراهة أن يخالط الناس في معايشتهم
وقال ابن المبارك عن وهيب بن الورد قال : فقد زكريا ابنه يحيى ثلاثة أيام فخرج يلتمسه في البرية فإذا هو قد احتفر قبراً وأقام فيه يبكي على نفسه ، فقال : يا بني أنا أطلبك من ثلاثة أيام وأنت في قبر احتفرته قائم تبكي فيه ؟ فقال : يا أبت ألست أنت أخبرتني أن بيت الجنة والنار مفازة لا تقطع إلا بدموع البكائين فقال له : ابك يا بني فبكيا جميعاً وهكذا حكاه وهب بن منبه ومجاهد بنحوه
وروى ابن عساكر عنه أنه قال : إن أهل الجنة لا ينامون للذة ما هم فيه من النعيم ، فكذا ينبغي للصديقين ألا يناموا لما في قلوبهم من نعيم المحبة لله عز وجل ثم قال : كم بين النعيمين وكم بينهما
وذكروا أنه كان كثير البكاء حتى أثر البكاء في خديه من كثرة دموعه
بيان سبب قتل يحيى عليه السلام
وذكروا في قتله أسباباً من أشهرها أن بعض ملوك ذلك الزمان بدمشق كان يريد أن يتزوج ببعض محارمه أو من لا يحل له تزويجها ، فنهاه يحيى عليه السلام عن ذلك فبقي في نفسها منه فلما كان بينها وبين الملك ما يجب منها استوهبت منه دم يحيى ، فوهبه لها فبعثت إليه من قتله وجاء براسه ودمه في طست إلى عندها ، فيقال إنها هلكت من فورها وساعتها
وقيل بل أحبته امرأة ذلك الملك وراسلته فأبى عليها ، فلما يئست منه تحيلت في أن استوهبته من الملك ، فتمنع عليها الملك ثم أجابها إلى ذلك فبعث من قتله وأحضر إليها رأسه ودمه في طست
وقد ورد معناه في حديث رواه إسحاق بن بشر في كتابه المبتدأ حيث قال : أنبأنا يعقوب الكوفي ، عن عمرو بن ميمون ، عن أبيه ، عن ابن يحيى خبرني عن قتلك كيف كان ولم قتلك بنو إسرائيل ؟ قال : يا محمد أخبرك أن يحيى كان خير أهل زمانه ، وكان أجملهم وأصبحهم وجهاً ، وكان كما قال تعالى :" سيدا وحصورا " وكان لا يحتاج إلى النساء فهويته امرأة ملك بني إسرائيل ، وكانت بغية ، فأرسلت إليه وعصمه الله وامتنع يحيى وأبى عليها فأجمعت على قتل يحيى ولهم عيد يجتمعون في كل عام ، وكانت سنة الملك أن يعد ولا يخلف ولا يكذب
قال : فخرج الملك إلى العيد فقامت امرأته فشيعته ، وكان بها معجباً ولم تكن تفعله فيما مضى ، فلما أن شيعته قال الملك : سليني ، فما سألتني شيئاً إلا أعطيتك قالت : أريد دم يحيى ابن زكريا قال لها : سليني غيره قالت : هو ذاك : قال هو لك قال فبعثت جلاوزتها إلى يحيى وهو في محرابه يصلي وأنا إلى جانبه أصلي ، قال : فذبح في طست وحمل رأسه ودمه إليها قال : فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : فما بلغ من صبرك ؟ قال : ما انفلت من صلاتي
قال : فلما حمل رأسه إليها فوضع بين يديها فلما أمسوا خسف الله بالملك وأهل بيته وحشمه ، فلما أصبحوا قالت بنو إسرائيل : قد غضب إله زكريا لزكريا ، فتعالوا حتى نغضب لملكنا فنقتل زكريا قال : فخرجوا في طلبي ليقتلوني وجاءني النذير ، فهربت منهم وإبليس أمامهم يدلهم علي فلما تخوفت ألا أعجزهم عرضت لي شجرة فنادتني وقالت : إلي إلي وانصدعت لي ودخلت فيها
وقال : وجاء إبليس حتى أخذ بطرف ردائي والتأمت الشجرة وبقي طرف ردائي خارجاً من الشجرة ن وجاءت بنو إسرائيل فقال إبليس : أما رأيتموه دخل هذه الشجرة ، هذا طرف ردائه دخلها بسحره فقال : نحرق هذه الشجرة فقال إبليس : شقوها بالمنشار شقاً قال : فشققت مع الشجرة بالمنشار
قال له النبي (صلى الله عليه وسلم) : هل وجدت له مساً أو وجعاً ؟ قال : لا ، إنما وجدت ذلك الشجرة التي جعل الله روحي فيها
هذا سياق غريب جداً وحديث عجيب ورفعه منكر ، وفيه ما ينكر على كل حال ، ولم ير في شيء من أحاديث الإسراء ذكر زكريا عليه السلام إلا في هذا الحديث ، وإنما المحفوظ في بعض ألفاظ الصحيح في حديث الإسراء : فمررت بابني الخالة يحيى وعيسى وهما ابنا الخالة فجاء على قول الجمهور كما في ظاره الحديث ، فإن أم يحيى أشياع بنت عمران أخت مريم بنت عمران وقيل بل أشياع وهي امرأة زكريا ، أم يحيى هي أخت حنة امرأة عمران أم مريم ، فيكون يحيى ابن خالة مريم فالله أعلم
ثم اختلف في مقتل يحيى بن زكريا هل كان في المسجد الأقصى أم بغيره على قولين : فقال الثوري عن الأعمش عن شملة بن عطية قال : قتل على الصخرة التي ببيت المقدس سبعون نبياً ، منهم يحيى بن زكريا عليه السلام
وقال أبو عبيدة القاسم بن سلام : حدثنا عبد الله بن صالح ، عن الليث ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب قال : قدم بختنصر دمشق ، فإذا هو بدم يحيى بن زكريا يغلي ، فسأل عنه فأخبروه ، فقتل على دمه سبعين ألفاً فسكن وهذا إسناد صحيح إلى سعيد بن المسيب وهو يقتضي أنه قتل بدمشق وأن قصة بختنصر كانت بعد المسيح كما قاله عطاء والحسن البصري فالله أعلم وروى الحافظ ابن عساكر من طريق الوليد بن مسلم عن زيد بن واقد ، قال : رأيت رأس يحيى بن زكريا حين أرادوا بناء مسجد دمشق أخرج من تحت ركن من أركان القبلة الذي يلي المحراب مما يلي الشرق ، فكانت البشرة والشعر على حاله لم يتغير وفي رواية : كأنما قتل الساعة
وذكر في بناء مسجد دمشق أنه جعل تحت العمود المعروف بعمود السكاسكة فالله أعلم
وقد روى الحافظ ابن عساكر في المستقصي في فضائل الأقصى من طريق العباس بن صبح ، عن مروان ، عن سعيد بن عبد العزيز ، عن قاسم مولى معاوية ، قال : كان ملك هذه المدينة - يعني دمشق - هداد بن هدار ، وكان قد زوج ابنه بابنة أخيه أريل ملكة صيدا ، وقد كان من جملة أملاكها سوق الملوك بدمشق وهو الصاغة العتيقة ، وقال كان قد حلف بطلاقها ثلاثاً ثم إنه أراد مراجعتها فاستفتى يحيى بن زكريا فقال : لا تحل لك حتى تنكح زوجاً غيرك ، فحقدت عليه وسألت من الملك رأس يحيى بن زكريا ، وذلك بإشارة أمها فأبى عليها ثم أجباها إلى ذلك وبعث إليه وهو قائم يصلي بمسجد جبرون من أتاه برأسه في صينية ، فجعل الرأس يقول له : لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره ، فأخذت المرأة الطبق فحملته على رأسها وأتت به أمها وهو يقول كذلك ، فلما تمثلت بين يدي أمها خسف بها إلى قدميها ثم إلى حقويها ، وجعلت أمها تولول والجواري يصرخن ويلطمن وجوههن ، ثم خسف بها إلى منكبيها فأمرت أمها السياق أن يضرب عنقها لتتسلى برأسها ، ففعل فلفظت الأرض جثتها عند ذلك ، ووقعوا في الذل والفناء ، ولم يزل دم يحيى يفور حتى قدم بختنصر فقتل عليه خمسة وسبعين ألفاً
قال سعيد بن عبد العزيز : وهي دم كل نبي ولم يزل يفور حتى وقف عنده أرميا عليه السلام فقال : ايها الدم أفنيت بني إسرائيل فاسكن بإذن الله فسكن فرفع السيف وهرب من هرب من أهل دمشق إلى بيت المقدس فتبعهم إليها فقتل خلقاً كثيراً لا يحصون كثرة وسبى منهم ثم رجع عنهم




 

رد مع اقتباس
قديم 08-26-2010, 04:47 AM   #26
فريق المتابعة والتنظيم


الصورة الرمزية رمسيس
رمسيس متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 882
 تاريخ التسجيل :  Apr 2009
 أخر زيارة : 06-27-2024 (12:40 PM)
 المشاركات : 3,500 [ + ]
 التقييم :  309
 الدولهـ
Saudi Arabia
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Sienna
 

افتراضي



بيان نزول الكتب الأربعة ومواقيتها
بيان نزول الكتب الأربعة ومواقيتها
وقال أبو زرعة الدمشقي :حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثني معاوية بن صالح ، عمن حدثه قال :" أنزلت التوراة على موسى في ست ليال خلون من شهر رمضان ، ونزل الزبور على داود في اثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رمضان ، وذلك بعد التوراة بأربعمائة سنة واثنتين وثمانين سنة ، وأنزل الإنجيل على عيسى ابن مريم في ثماني عرة ليلة خلت من شهر رمضان بعد الزبور بألف عام وخمسين عاماً ، وأنزل الفرقان على محمد (صلى الله عليه وسلم) في أربع وعشرين من شهر رمضان "
وقد ذكرنا في التفسير عند قوله :" شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن " الأحاديث الواردة في ذلك ، وفيها أن الإنجيل أنزل على عيسى ابن مريم عليه السلام في ثماني عشرة ليلة خلة من شهر رمضان
وذكر ابن جرير في تاريخه أنه أنزل عليه وهو ابن ثلاثين سنة ،ومكث حتى رفع إلى السماء وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى
وقال إسحاق بن بشر : وأنبأنا سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، ومقاتل عن قتادة ، عن عبد الرحمن بن آدم ،عن أبي هريرة قال : أوحى الله عز وجل إلى عيسى ابن مريم : يا عيسى جد في أمري ولا تهن ، واسمع وأطع يا ابن الطاهرة البكر البتول ، إنك من غير فحل ، وأنا خلقتك آية للعالمين ، إياي فاعبد وعلي فتوكل ،خذ الكتاب بقوة ، فسر لأهل السريانية ، بلغ من بين يديك أنا الحق الحي القائم الذي لا أزول ، صدقوا النبي الأمي العربي صاحب الجمل والتاج - وهي العمامة - والمدرعة والنعلين والهراوة - وهي القضيب - الأنجل العينين الصلت الجبين الواضح الخدين ، الجعد الرأس ، الكث اللحية ، المقرون الحاجبين ،الأقنى الأنف ، المفلج الثنايا ، البادي العنفقة ، الذي كأن عنقه إبريق فضة وكأن الذهب يجري في تراقيه ، له شعرات من لبته إلى سرته تجري كالقضيب ، ليس على بطنه ولا على صدره شعر غيره ، شثن الكف والقدم ، إذا التفت التفت جميعاً ، وإذا مشى كأنما يتقلع منه صخر وينحدر من صبب ، عرقه في وجهه كالؤلؤ وريح المسك ينفح منه ولم ير قبله ولا بعده مثله ، الحسن القامة الطيب الريح ، نكاح النساء ذا النسل القليل ، إنما نسله من مباركة ، لها بيت - يعني في الجنة - من قصب لا نصب فيه ولا صخب ، تكفله يا عيسى في آخر الزمان كما كفل زكريا أمك ، له منها فرخان مستشهدان ، وله عندي منزلة ليست لأحد من البشر ، كلامه القرآن ودينه الإسلام وأتاه السلام ، طوبى لمن أدرك زمانه وشهد أيامه وسمع كلامه
قال عيسى : يا رب وما طوبى ؟ قال : غرس شجرة أنا غرستها بيدي ، فهي للجنان كلها ، أصلها من رضوان وماؤها من تسنيم ، وبردها برد الكافور وطعمها طعم الزنجبيل وريحها ريح المسك ، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً
قال عيسى : يا رب اسقني منها قال : حرام على النبيين أن يشربوا منها حتى يشرب ذلك النبي ، وحرام على الأمم أن يشربوا منها حتى تشرب منها أمة ذلك النبي
قال : يا عيسى أرفعك إلي قال : يا رب ولم ترفعني ؟ قال : أرفعك ثم أهبطك في آخر الزمان لترى من أمة ذلك النبي العجائب ولتعينهم على قتال اللعين الدجال ، أهبطك في وقت صلاة ثم لا تصلي بهم لأنها مرحومة ولا نبي بعد نبيهم
وقال هشام بن عمار عن الوليد بن مسلم ، عن عبد الرحمن بن زيد ، عن أبيه ، أن عيسى قال : يا رب أنبئني عن هذه الأمة المرحومة قال : أمة أحمد ، هم علماء حكماء كأنهم أنبياء ، يرضون مني بالقليل من العطاء وأرضى منهم باليسير من العمل ، وأدخلهم الجنة بلا إله إلا الله يا عيسى هم أكثير سكان الجنة ، لأنه لم تذل ألسن قوم قط بلا إله إلا الله كما ذلت ألسنتهم ، ولم تزل رقاب قوم قط بالسجون كما ذلت به رقابهم
رواه ابن عساكر وروى ابن عساكر من طريق عبد الله بن بديل العقلي ، عن عبد الله ابن عوسجة قال : أوحى الله إلى عيسى ابن مريم : أنزلني من نفسك كهمك ، واجعلني ذخراً في معادك ، وتقرب إلي بالنوافل أحبك ولا تول غيري فأخذلك ، اصبر على البلاء وارض بالقضاء ، وكن لمسرتي أن أطاع فلا أعصى ، وكن مني قريباً وأحي ذكري بلسانك ، ولتكن مودتي في صدرك ، تيقظ من ساعات الغفلة واحكم في لطيف الفطنة ، وكن لي راغباً راهباً وأمت قلبك في الخشية لي وراع الليل لحق مسرتي واظم نهارك ليوم الري عندي ، نافس في الخيرات جهدك ، واعترف بالخير حيث توجهت ، وقم في الخلائق بنصيحتي ، واحكم في عبادي بعدلي ، فقد نزلت عليك شفاء وسواس الصدور من مرض النسيان وجلاء الأبصار من عشاء الكلال حلساً كأنك مقبوض وأنت حي تنفس
يا عيسى ابن مريم ما آمنت بي خليقة إلا خشعت ، ولا خشعت لي إلا رجت ثوابي فأشهدك أنها آمنة من عقابي مالم تغير أو تبدل سنتي
يا عيسى ابن مريم البكر البتول ابك على نفسك أيام الحياة بكاء من ودع الأهل وقلا الدنيا وترك اللذات لأهلها وارتفعت رغبته فيما عند إلهه ، وكن في ذلك تلين الكلام وتفشي السلام ، وكن يقظان إذا نامت عيون الأبرار ، حذار ما هو آت من أمر المعاد زلازل شدائد الأهوال ، قبل أن ينفع أهل ولا مال ، واكحل عينك بمحلول الحزن إذ ضحك البطالون ، وكن في ذلك صابراً محتسباً ، وطوبى لك إن نالك ما وعدت الصابرين ، ارج من الدنيا بالله يوم يبعثون وذق مذاقة ما قد حرب منك أين طعمه ، وما لم يأتك كيف لذته ، فرح من الدنيا بالبلغة ، وليكفك منها الخشن الجئيب ، قد رايت إلى ما يصير ، اعمل على حساب فإنك مسئول ، لو رأت عيناك ما أعددت لأوليائي الصالحين ذاب قلبك وزهقت نفسك
وقال أبو داود في كتاب القدر : حدثنا محمد بن يحيى بن فارس ، حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر عن الزهري ، عن ابن طاووس ، عن أبيه قال : لقي عيسى ابن مريم إبليس فقال : أما علمت أنه لن يصيبك إلا ما كتب لك ؟ قال إبليس : فأوف بذروة هذا الجبل فتردى منه فانظر هل تعيش أم لا فقال ابن طاووس : عن أبه : فقال عيسى : أما علمت أن الله تعالى قال : لا يجربني عبدي فإني أفعل ما شئت وقال الزهري : إن العبد لا يبتلي ربه ولكن الله يبتلي عبده
وقال أبو داوود : حدثنا أحمد بن عبدة ، أنبأنا سفيان ، عن عمرو ، عن طاووس قال : أتى الشيطان عيسى ابن مريم ، فقال : أليس تزعم أنك صادق ؟ فأت هوة فألق نفسك قال : ويلك أليس قال : يا ابن آدم لا تسألني هلاك نفسك فإني أفعل ما أشاء !
وحدثنا أبو توبة الربيع بن نافع ، حدثنا حسين بن طلحة ، سمعت خالد بن يزيد ، قال : تعبد الشيطان مع عيسى عشر سنين أو سنتين ، أقام يوماً على شفير جبال فقال الشيطان : أرأيت إن ألقيت نفسي هل يصيبني إلا ما كتب لي إني لست بالذي أبتلي ربي ولكن ربي إذا شاء ابتلاني وعرفه أنه الشيطان ففارقه
وقال أبو بكر بن ابي الدنيا : حدثنا شريح بن يونس ، حدثنا علي بن ثابت ، عن الخطاب بن القاسم ، عن أبي عثمان ، كان عيسى عليه السلام يصلي على رأس جبل ، فأتاه إبليس فقال : أنت الذي تزعم أن كل شيء بقضاء وقدر ؟ قال : نعم قال : ألق نفسك من هذا الجبل وقل قدر علي فقال : يالعين الله يختبر العباد وليس العباد يختبرون الله عز وجل
وقال أبو بكر من أبي الدنيا : حدثنا الفضل بن موسى البصري ، حدثنا إبراهيم بن بشار ، سمعت سفيان بن عيينة يقول : لقي عيسى ابن مريم إبليس فقال له إبليس : يا عيسى ابن مريم الذي بلغ من عظم ربوبيتك أ،ك تكلمت في المهد صبياً ، ولم يتكلم فيه أحد قبلك قال : بل الربوبية للإله الذي أنطقني ثم يميتني ثم يحييني قال : فأنت الذي بلغ من عظم ربوبيتك أنك تحيي الموتى قال : بل الربوبية لله الذي يحيي ويمييت من أحييت ثم يحييه قال : والله إنك لإله في السماء وإله في الأرض قال : فصكه جبريل بجناحيه فما نباها دون قرون الشمس ثم صحه أخرى بجناحيه فما نباها دون العين الحامية ، ثم صحه أخرى فأدخله بحار السابعة فأساخه ، وفي رواية : فاسلكه فيها ، حتى وجد طعم الحمأة فخرج منها وهو يقول : ما لقي أحد من أحد ما لقيت منك يا ابن مريم
وقد روي نحو هذا بأبط منه من وجه آهر ، فقال الحافظ أبو بكر الخطيب : أخبرني ابو الحسن بن رزقويه ، أنبأنا أبو بكر أحمد ابن سيدي ، حدثنا ابو محمد الحسن بن علي القطان ، حدثنا إسماعيل ابن عيسى العطار ، أنبأنا علي بن عاصم ، حدثني أبو سلمة سويد عن بعض أصحابه قال : صلى عيسى ببيت المقدس فانصرف ، فلما كان ببعض العقبة عرض له إبليس فاحتبسه فجعل يعرض عليه ويكلمه ويقول له : إنك لا ينبغي لك أن تكون عبداً فأكثر عليكه وجعل عيسى يحرص على أن يتخلص منه ، فجعل لا يتخلص منه فقال له فيما يقول : لا ينبغي لك يا عيسى أن تكون عبداً قال : فاستغاث عيسى بربه ، فأقبل جبريل وميكائيل فلما رآها إبليس كف ، فلما استقر معه على العقبرة اكتنفا عيسى وضرب جبريل إبليس بجناحه فقذفه في بطن الوادي قال : فعاد إبليس معه وعلم أنهما لم يؤمرا بغير ذلك فقال لعيسى : قد أخبرتك أنه لا ينبغي أن تكون عبداً ، إن غضبك ليس بغضب عبد ، وقد رأيت ما لقيت منك حين غضبت ولكن أدعوك لأمر هو لك ، آمر الشياطين فليطيعوك فإذا رأى البشر أن الشياطين أطاعوك عبدوك ، أما إني لا أقول أن تكون أنت إلهاً في الأرض فلما سمع عيسى ذلك منه اتسغاث بربه وصرخ صرخة شديدة ، فإذا إسرافيل قد هبط فنظر إليه جبريل وميكائيل فكف إبليس ، فلما استقر معهم ضرب إسرافيل إبليس بجناحه فصك به عين الشمس ، ثم ضربه ضربة أخرى فأقبل إبليس يهوي ومر عيسى وهو بمكانه فقال : يا عيسى لقد لقيت فيك اليوم تعباً شديداً فرمى به في عين الشمس ، فوجد سبعة أملاك عند العين الحامية قال : فغطوه فجعل كلما خرج غطوه في تلك الحمأة قال : والله ما عاد إليه بعد
قال : وحدثنا غسماعيل العطار ، حدثنا أبو حذيفة قال : واجتمع إليه شياطينه فقالوا : سيدنا لقد لقيت تعباً ، قال : إن هذا عبد معصوم ليس لي عليه من سبيل ، وسأصل به بشراً كثيراً وأبث فيهم أهواء مختلفة وأجعلهم شيعاً ويجعلونه وأمه إلهين من دون الله قال : وأنزل الله فيما أيد به عيسى وعصمه من إبليس قرآنا ناطقاً يذكر نعمته على عيسى فقال : " يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس " يعني إذ قويتك بروح القدس ، يعني جبريل " تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير " الآية كلها وإذ جعلت المساكين لك بطانة وصحابة وأعواناً ترضي بهم وصحابة وأعواناً يرضون بك هادياً وقائداً إلى الجنة ، فذلك فاعلم خلقان عظيمان من لقيني بهما فقد لقيني بأزكى الخلائق وأرضاها عندي
وسيقول لك بنو إسرائيل صمنا فلم يتقبل صيامنا وصينا فلم تقبل صلاتنا وتصدقنا فلم تقبل صدقاتنا وبكينا بمثل حنين الجمال فلم يرحم بكاؤنا فقل لهم : ولم ذلك وما الذي يمنعني ؟ أن ذات يدي قلت ؟ أو ليس خزائن السموات والأرض بيدي أنفق منها كيف أشاء أو أن البخل يعتريني ، أو لست أجود من سئل وأوسع من أعطى أو أن رحمتي ضاقت ؟ وإنما يتراحم المتراحمون بفضل رحمتي
ولولا أن هؤلاء القوم يا عيسى ابن مريم غروا أنفسهم بالحكمة التي تورث في قلوبهم ما استأثروا به الدنيا أثرة على الآخرة لعرفوا من أين أتوا ، وإذن لأيقنوا أن أنفسهم هي أعدى الأعداء لهم ، وكيف أقبل صيامهم وهم يتقوون عليه بالأطعمة الحرام ، وكيف أقبل صلاتهم وقلوبهم تركن إلى الذين يحاربوني وستحلون محارمي ، وكيف أقبل صدقاتهم وهم يغضبون الناس عليهم فيأخذونها من غير حلها ، يا عيسى إنما أجزي عليها أهلها ، وكيف أرحم بكاءهم وأيديهم تقطر من دماء الأنبياء ؟ ! ازددت عليهم غضباً
يا عيسى وقضيت يوم خلقت السموات والأرض أنه من عبدني وقال فيكما بقولي أن أجعلهم جيرانك في الدار ورفقاءك في المنازل وشركاءك في الكرامة ، وقضيت يوم خلقت السموات والأرض أنه من اتخذك وأمك إلهين من دون الله أن أجعلهم في الدرك الأسفل من النار
وقضيت يوم خلقت السموات والأرض أني مثبت هذا الأمر على يدي عبدي محمد وأختم به الأنبياء والرسل ، ومولده بمكة ومهاجره بطيبة وملكه بالشام ، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ولا يتزين بالفحش ولا قوال بالخنا ، أسدده لكل أمر جميل وأهب له كل خلق كريم ، وأجعل التقوى ضميره والحكم معقوله والوفاء طبيعته والعدل سيرته والحق شريعته والإسلام ملته ، اسمه أحمد ، أهي به بعد الضلالة وأعلم به بعد الجهالة وأعنى به بعد العائلة ، وأرفع به بعد الضعة ، أهدى به وأقتح به بين آذان صم وقلوب غلف وأهواء مختلفة متفرقة ، وأجعل أمته خير أمة اخرجت للناس ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر إخلاصاً لا سمى وتصديقاً لما جاءت به الرسل ، ألهمهم التسبيح والتقديس والتهليل في مساجدهم ومجالسهم وبيوتهم ومنقلبهم ومثواهم ، يصلون لي قياماً وقعوداً وركعاً وسجوداً ، ويقاتون في سبيلي صفوفاً وزحوفاً ، قربانهم دماؤهم وأناجيلهم في صدورهم وقربانهم في بطونهم ، رهبان بالليل ليوث في النهار ، ذلك فضلي أوتيه من أشاء وأنا ذو الفضل العظيم
وسنذكر ما يصدق كثيراً من هذا السياق مما سنورده من سور المائدة والصف إن شاء الله وبه الثقة
وقد روى أبو حذيفة إسحاق بن بشر بأسنانيده عن كعب الأحبار ووهب بن منبه وابن عباس وسلمان الفارسي ، دخل حديث بعضهم في بعض ، قال : لما بعث عيسى ابن مريم وجاءهم بالبينات جعل المنافقون والكافرون من بني إسرائيل يعجبون ويستهزئون به فيقولون : ما أكل فلان البارحة وما ادخر في منزله ؟ فيخبرهم ، فيزداد المؤمنون إيماناً ، والكافرون والمنافقون شكاً وكفراناً
وكان عيسى مع ذلك ليس له منزل يأوي إليه ، إنما يسبح في الأرض ليس له ولا موضع يعرف به ، فكان أول من أحيا من الورق أنه مر ذات يوم على امرأة قاعدة عند قبر وهي تبكي فقال لها : مالك أيتها المرأة ؟ فقالت : ماتت ابنة لي لم يكنن لي ولد غيرها وإن عاهدت ربي أن لا أبرح من موضعي هذا حتى أذوق ما ذاقت من الموت أو يحييها الله لي فانظر إليها فقال لها عيسى : أرايت إن نظرت إليها اراجعة أنت ؟ قالت : نعم ز نعم ك فصلى ركعتين ثم جاء فجلس عند القبر فنادى الثانية فانصدعن القبر بإذن الله ، ثم نادى الثالثة فخرجت وهي تنفض رأسها من التراب ، فقال ليها عيسى : ما أبطأ بك عني ؟ فقالت : لما جاءتني الصيحة الأولى بعث الله لي ملكاً فركب خلفي ثم جاءتني الصيحة الثانية فرجع إلي روحي ، ثم جاءتني الصحية الثالثة فخفت أنها صيحة القيامة فشاب رأسي وحاجبياي وأشفار عيني من مخافة القيامة ، ثم أقبلت على أمها فقالت : يـ أماه اصبري واحتسبي فلا حاجة لي في الدنيا ، يا روح الله وكلمته سل ربي أن يردني إلى الآخرة وأن يهون علي كرب الموت فدعا ربه فقبضها إليه واستوت عليها الأرض
فبلغ ذلك اليهود فازاجاجو غضباً
وقال تعالى وهو أصدق القائيلين :" إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين * وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون "
يذكره تعالى بنعمته عليه وإحسانه إليه في خلقه إياه من غير أب ، بل من أم بلا ذكر ، وجعله له آية للناس ودلالة على كمال قدرته تعالى ثم إرساله بعد هذا كله " وعلى والدتك " في اصطفائها واختيارها لهذه النعمة العظيمة وإقامة البرهان على براءتها مما نسبها إليه الجاهلون ولهذا قال :" إذ أيدتك بروح القدس " وهو جبريل بإلقاء روحه إلى أمه وقرنه معه في حال رسالته ومدافعته عنه لمن كفر به " تكلم الناس في المهد وكهلا " أي تدعو الناس إلى الله في حال صغرك في مهدك وفي جهولتك " وإذ علمتك الكتاب والحكمة " أي الخط والفهم ، ونص عليه بعض السلف " والتوراة والإنجيل " وقوله :" وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني " أي تصوره وتشكله من الطين على هيئة الطير على أمر الله له بذلك " فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني " أي بأمري يؤكد تعالى بذكر الإذن له في ذلك لرفع التوهم
وقوله :" وتبرئ الأكمه " قال بعض السلف : وهو الذي يولد أعمى ولا سبيل لأحد من الحكماء إلى مداواته " والأبرص " هو الذي لا طب فيه بل قد مرض بالبرص وصار داؤه عضالا " وإذ تخرج الموتى " أي من قبورهم أحياء " بإذني " وقد تقدم ما فيه دلالة على وقوع ذلك مراراً متعددة بما فيها كفاية
وقوله :" وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين " وذلك حين أرادوا صلبه فرفعه الله إليه وأنقذه من بين أظهرهم صيانة لجنابه الكريم عن الأذى ، وسلامة له من الردى
وقوله : " وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون " قيل المراد بهذا الوحي وحي إلهام أي أرشدهم الله إليه ودلهم عليه كما قال :" وأوحى ربك إلى النحل " " وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم " وقيل المراد وحي بواسطة الرسول وتوفيق في قلوبهم لقبول الحق ، ولهذا استجابوا قائلين :" آمنا واشهد بأننا مسلمون "
وهذا من جملة نعم الله على عبده ورسوله عيسى ابن مريم أن جعل له أنصاراً وأعواناً ينصرونه ويدعون معه إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، كما قال تعالى لعبده محمد (صلى الله عليه وسلم) " هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين * وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم " وقال تعالى :" ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل * ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين * ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون * إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم * فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون * ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين * ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين "
كانت معجزة كل نبي في زمانه بما يناسب أهل ذلك الزمان ، فذكروا أن موسى عليه السلام كانت معجزته مما يناسب أهل زمانه وكانوا سحرة أذكياء ، فبعث بآيات بهرت الأبصار وخضعت لها الرقاب ، ولما كان السحرة خبيرين بفنون السحر وما ينتهي إليه وعاينوا ما عاينوا من الأمر الباهر الهائل الذي لا يمكن صدوره إلا عمن أيده الله وأجرى الخارق على يديه تصديقاً له ، أسلموا سراعاً ولم يتعلثموا
وهكذا عيسى ابن مريم بعث في زمن الطبائعية الحكماء ، فأرسل بمعجزات لا يستطيعونها ولا يهتدون إليها ، وأنى لحكيم إبراء الأكمه الذي هو أسوأ حالاً من الأعمى ، والأبرص والمجذوم ومن به مرض مزمن ، وكيف يتوصل أحد من الخلق إلى أن يقيم الميت من قبره ؟ هذا مما يعلم كل أحد معجزة دالة على صدق من قامت به وعلى قدرة من أرسله
وهكذا محمد (صلى الله عليه وسلم) وعليهم أجمعين بعث في زمن الفصحاء البلغاء ، فأنزل الله عليه القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ، فلفظه معجز تحدى به الإنس والجن أن يأتوا بمثله أو بعشر سور من مثله أو بسورة ، وقطع عليهم بأنهم لا يقدرون لا في الحال ولا في الاستقبال ، فإن لم يفعلوا ولن يفعلوا وما ذاك إلا أنه كلام الخالق عز وجل ، والله تعالى لا يشبهه شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله
والمقصود أن عيسى عليه السلام لما أقام عليهم الحجج والبراهين استمر أكثرهم على كفرهم وضلالهم وعنادهم وطغيانهم ، فانتدب من بينهم طائفة صالحة فكانوا له أنصاراً وأعواناً قاموا بمتابعته ونصرته ومناصحته ، وذلك حين هم به بنو إسرائيل ووشوا به إلى بعض ملوك ذلك الزمان ، فعزموا على قتله وصلبه فأنقذه الله منهم ورفعه إليه من بين أظهرهم وألقى شبهه على أحد أصحابه فأخذوه فقتلوه وصلبوه وهم يعتقدونه عيسى وهم في ذلك غالطون وللحق مكابرون ، وسلم لهم كثير من النصارى ما ادعوه ، وكلا الفريقين في ذلك مخطئون
قال تعالى :" ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين " وقال تعالى :" وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين * ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام والله لا يهدي القوم الظالمين * يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون " إلى أن قال بعد ذلك :" يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين "
فعيسى عليه السلام هو خاتم أبيناء بني إسرائيل وقد قام فيهم خطيباً فبشرهم بخاتم الأنبياء الآتي بعده ونوه باسمه وذكر لهم صفته ليعرفوه ويتابعوه إذا شاهدوه ، إقامة للحجة عليهم وإحساناً من الله إليهم كما قال تعالى :" الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون "
وقال محمد بن إسحاق : حدثني ثور بن يزيد ، عن خالد بن معدان ، عن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنهم قالوا : يا رسول الله أخبرنا عن نفسك قال :" دعوة أبي إبراهيم ، وبشرى عيسى ، ورأت أمي حين حملت بي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام "
وقد روي عن العرباض بن سارية وأبي أمامة عن النبي (صلى الله عليه وسلم) نحو هذا وفيه : دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى وذلك أن إبراهيم لما بنى الكعبة قال :" ربنا وابعث فيهم رسولا منهم " الآية ولما انتهت النبوة في بني إسرائيل إلى عيسى قام فيهم خطيباً فأخبرهم أن النبوة قد انقطعت عنهم وأنها بعده في النبي العربي الأمي خاتم الأنبياء على الإطلاق أحمد ، وهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم الذي هو من سلالة إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليه السلام
قال الله تعالى :" فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين " يحتمل عود الضمير إلى عيسى عليه السلام ويحتمل عوده إلى محمد (صلى الله عليه وسلم)
ثم حرض تعالى عباده المؤمنين على نصرة الإسلام وأهله ونصرة نبيه ومؤازرته ومعاونته على إقامة الدين ونشر الدعوة فقال :" يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله " أي من يساعدني في الدعوة ، إلى الله " قال الحواريون نحن أنصار الله " وكان ذلك في قربة يقال لها الناصرة فسموا بذلك النصارى ، قال الله تعالى :" فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة " يعني لما دعا عيسى ابن مريم بني إسرائيل وغيرهم إلى الله تعالى ، منهم من آمن ومنهم من كفر ، وكان ممن آمن به أهل أنطاكية بكاملهم فيما ذكره غير واحد من أهل السير والتواريخ والتفسير بعث إليهم رسلاً ثلاثة ، أحدهم شمعون الصفا فآمنوا واستجابوا ، وليس هؤلاء هم المذكورون في سورة يس لما تقدم تقريره في قصة أصحاب القرية ، وكفر آخرون من بني إسرائيل وهم جمهور اليهود ، فأيد الله من آمن به على من كفر فيما بعد وأصبحوا ظاهرين عليه قاهرين لهم كما قال تعالى :" إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة " الآية فكل من كان إليه أقرب كان غالباً لمن دونه ، ولما كان قول المسلمين فيه هو الحق الذي لا شك فيه من أنه عبد الله ورسوله كانوا ظاهرين على النصارى الذين غلوا فيه وأطروه وأنزلوه فوق ما أنزله الله به
ولما كان النصارى أقرب في الجملة مما ذهب إليه اليهود فيه عليهم لعائن الله ، كان النصارى قاهرين لليهود في أزمان الفترة إلى زمن الإسلام وأهله


 

رد مع اقتباس
قديم 08-27-2010, 04:16 AM   #27
فريق المتابعة والتنظيم


الصورة الرمزية رمسيس
رمسيس متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 882
 تاريخ التسجيل :  Apr 2009
 أخر زيارة : 06-27-2024 (12:40 PM)
 المشاركات : 3,500 [ + ]
 التقييم :  309
 الدولهـ
Saudi Arabia
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Sienna
 

افتراضي



قصة عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله وابن أمته عليه من الله أفضل الصلاة والسلام
قصة عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله وابن أمته عليه من الله أفضل الصلاة والسلام
قال الله تعالى في سورة آل عمران التي أنزل صدرها وهو ثلاث وثمانون آية منها في الرد على النصارى عليهم لعائن الله ، الذين زعموا أن لله ولداً ، وتعالى الله عما يقولون علواً كبيراً
وكان قد قدم وفد نجران منهم على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فجعلوا يذكرون ما هم عليه من الباطل من التثليث في الأقانيم ويدعون بزعمهم أن الله ثالث ثلاثة وهم الذات المقدسة وعيسى ومريم ، على اختلاف فرقهم ، فأنزل الله عز وجل صدر هذه السورة بين فيها أن عيسى بعد من عباد الله خلقه وصوره في الرحم كما صور غيره من المخلوقات وأنه خلقه من غير أب كما خلق آدم من غير أب ولا أم ، وقال له كن فكان سبحانه وتعالى وبين اصل ميلاد أمه مريم وكيف كان من أمرها وكيف حملت بولدها عيسى ، وكذلك بسط ذلك في سورة مريم كما سنتكلم على ذلك كله بعون الله وحسن توفيقه وهدايته
فقال تعالى وهو أصدق القائلين :" إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين * ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم * إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم * فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم * فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب "
يذكر تعالى أنه اصطفى آدم عليه السلام والخلص من ذريته المتبعين شرعه الملازمين طاعته ، ثم خصص فقال :" وآل إبراهيم " فدخل فيهم بنو إسماعيل ثم ذكر فضل هذا البية الطاهر الطيب وهم آل عمران ، والمراد بعمران هذا والد مريم عليهما السلام
وقال محمد بن إسحاق : وهو عمران بن هشام بن أمون بن ميشا بن حزقيا بن أحريق بن موثم بن عزازيا بن أمصيا بن ياوش بن أحريهو بن يازم بن يهفاشاط بن إيشا بن إيان بن رحبعام بن داود
وقال أبو القاسم بن عساكر : مريم بنت عمران بن ماثان بن العازر بن اليهود بن أخنز بن صادوق بن عيازوز بن الياقيم بن أيبود بن زرابابيل ابن شالتال بن يوحينا بن برشا بن أمون ابن ميشا بن حزقيا بن أحاز بن موثام بن عزريا بن يورام بن يوشافاط بن إيشا بن إيبا بن رحبعام بن سليمان بن داود عليه السلام وفيه مخالفة لما ذكره محمد بن إسحاق
ولا خلاف أنها من سلالة داود عليه السلام وكان أبوها عمران صاحب صلاة بني إسرائيل في زمانه ، وكانت أمها وهي حنة بنت فاقود بن قبيل من العابدات ، وكان زكريا نبي ذلك الزمان زوج أخت مريم أشياع في قول الجمهور وقيل زوج خالتها أشياع فالله أعلم
وقد ذكر محمد بن إسحاق وغيره أن أمر مريم كانت لا تحبل فرأت يوماً طائراً يزق فرخاً له فاشتهت الولد فنذرت لله إن حملت لتجعلن ولدها محرراً أي حبيساً في بيت المقدس
قالوا : فحاضت من فورها فلما طهرت واقعها بعلها فحملت بمريم عليها السلام " فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت " وقرئ بضم التاء " وليس الذكر كالأنثى " أي في خدمة بيت المقدس ، وكانوا في ذلك الزمان ينذرون لبيت المقدس خداماً من أولادهم
وقولها :" وإني سميتها مريم " استدل به على تسمية المولود يوم يولد ، وكما ثبت في الصحيحين عن أنس في ذهبه بأخيه إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فحنك أخاه وسماه عبد الله وجاء في حديث الحسن عن سمرة مرفوعاً :" كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويسمي ويحلق رأسه "
رواه أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي وجاء في بعض ألفاظه :" ويدمى " بدل " ويسمى " وصححه بعضهم والله أعلم
وقولها :" وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم " قد استجيب لها في هذا كما تقبل منها نذرها ، فقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر عن الزهري ، عن ابن المسيب ، عن أبي هريرة ، أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال :" ما من مولود إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخاً من مس الشيطان إلا مريم وابنها " ثم يقول أبو هريرة : واقرءوا إن شئتم : " وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم "
أخرجاه من حديث عبد الرزاق ورواه ابن جرير عن أحمد بن الفرج عن بقية ، عن عبد الله بن الزبيدي ، عن الزهري عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وسلم) بنحوه
وقال أحمد أيضاً : حدثنا إسماعيل بن عمر ، حدثنا ابن أبي ذؤيب ، عن عجلان مولى المشتمعل ، عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال :" كل مولود من بني آدم يمسه الشيطان بأصبعه إلا مريم بنت عمران وابنها عيسى "
تفرد به من هذا الوجه ورواه مسلم عن أبي الطاهر ، عن ابن وهب ، عن عمر بن الحارث ، عن أبي يونس ، عن أبي هريرة ، عن النبي (صلى الله عليه وسلم) بنحوه
وقال أحمد : حدثنا هشيم ، حدثنا حفص بن ميسرة ، عن العلاء عن أبيه ، عن أبي هريرة ، أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال :" كل إنسان تلده أمه يلكزه الشيطان في حضنيه إلا ما كان من مريم وابنها ، ألم تر إلى الصبي حين يسقط كيف يصرخ ، ؟ قالو : بلى يا رسول الله قال : ذلك حين يلكزه الشيطان بحضنيه "
وهذا على شرط مسلم ولم يخرجه من هذا الوجه ، ورواه قيس عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :" ما من مولود إلا وقد عصره الشيطان عصرة - أو عصرتين - إلا عيسى ابن مريم ومريم " ثم قرأ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) " وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم "
وكذا رواه محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن عبيد الله بن قسيط ، عن أبي هريرة ، عن النبي (صلى الله عليه وسلم) بأصل الحديث
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله ، حدثنا المغيرة هو ابن عبد الرحمن الحزامي ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال :" كل نبي آدم يطعن الشيطان في جنبه حين يولد إلا عيسى ابن مريم ذهب يطعن فطعن في الحجاب " وهذا على شرط الصحيحين ولم يخرجوه من هذا الوجه
وقوله :" فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا "ذكر كثير من الفسرين أن أمها حين وضعتها لفتها في خرقها ثم خرجت بها إلى المسجد فسلمتها إلى العباد الذين هم مقيمون به ، وكانت ابنة إمامهم وصاحب صلاتهم فتنازعوا فيها ، والظاهر أنها إنما سلمتها إليهم بعد رضاعها وكفالة مثلها في صغرها
ثم لما دفعتها إليهم تنازعوا في أيهم يكفلها ، وكان زكريا نبيهم في ذلك الزمان ، وقد أراد أن يستبد بها دونهم من أجل زوجته أختها أو خالتها على القولين فشاحوه في ذلك وطلبوا أن يقترع معهم ، فساعدته المقادير فخرجت قرعته غالبة لهم وذلك أن الخالة بمنزلة الأم
قال الله تعالى " وكفلها زكريا " أي بسبب غلبه لهم في القرعة كما قال تعالى :" ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون " قالوا : وذلك أن كلا منهم ألقى قلمه معروفاً به ثم حملوها ووضعوها في موضع وأمروا غلاماً لم يبلغ الحنث فأخرج واحداً منها وظهر قلم زكريا عليه السلام فطلبوا أن يقترعوا مرة ثانية وأن يكون ذلك بأن يلقوا أقلامهم في النهر فأيهم جرى قلمه على خلاف جرية الماء ، وسارة أقلامهم مع الماء ثم طلبوا منه أن يقترعوا ثالثة فأيهم جرى قلمه مع الماء ويكون بقية الأقلام قد انعكس سيرها صعداً فهو الغالب ففعلوا فكن زكريا هو الغالب لهم فكفلها إذا كان أحق بها شرعاً وقدراً لوجوه عديدة
قال الله تعالى :" كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب " قال المفسرون : اتخذ لها زكريا مكاناً شريفاً من المسجد لا يدخله سواها ، فكانت تعبد الله فيه وتقوم بما يجب عليها من سدانة البيت إذا جاءت نوبتها ، وتقوم بالعبادة ليلها ونهارها ، حتى صارت يضرب بها المثل بعبادتها في بني إسرائيل ، واشتهرت بما ظهر عليها من الأحوال الكريمة والصفات الشريفة ، حتى إنه كان نبي الله زكريا كلما دخل عليها موضع عبادتها يجد عندها رزقاً غريباً في غير أوانه فكان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء ، وفاكهة الشتاء في الصيف فيسألها " أنى لك هذا " فتقول :" هو من عند الله " أي رزق رزقنيه الله " إن الله يرزق من يشاء بغير حساب "
فعند ذلك وهنالك طمع زكريا في وجود ولد من صلبه وإن كان قد أسن وكبر " قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء " قال بعضهم : قال : يامن يرزق مريم الثمر في غير أوانه ، هب لي ولداً وإن كان في غير أوانه ، فكان من هبره وقضيته ما قدمنا ذكره في قصته
" وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين * يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين * ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون * إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين * ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين * قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون * ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل * ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين * ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون * إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم "
يذكر تعالى أن الملائكة بشرت مريم باصطفاء الله لها من بين سائر نساء علمي زمانها ، بأن اختارها لإيجاد ولد منها من غير اب وبشرت بأن يكون نبياً شريفاً " يكلم الناس في المهد " أي في صغره يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، وكذلك في حال كهوليته ، فدل على أن يبلغ الكهولة ويدعو إلى الله فيها ، وأمرت بكثرة العبادة والقنةت والسجود والركوع لتكون ÷لاً لهذه الكرامة ولتقوم بشكر هذه النعمة فيقال إنها كاتن تقوم في الصلاة حتى تفطرت قدماها رضي الله عنها ورحمها ورحم أمها وأباها
فقول الملائكة :" يا مريم إن الله اصطفاك " أي اختارك واجتباك " وطهرك " أي من الأخلاق الرذيلة وأعطاك الصفات الجميلة " واصطفاك على نساء العالمين " يحتمل أن يكون المراد عالمي زمانها كقوله لموسى :" إني اصطفيتك على الناس " وكقوله عن بني إسرائيل :" ولقد اخترناهم على علم على العالمين " ومعلوم أن إبراهيم علييه السلام أفضل من موسى ، وأن محمداً (صلى الله عليه وسلم) أفضل منهما ، وكذلك هذه الأمة أفضل من سائر الأمم قبلها وأكثر عدداً وأفضل علماً وأزكى عملاً من بني إسرائيل وغيرهم
ويحتمل أن يكون قوله :" واصطفاك على نساء العالمين " محفوظ العموم فتكون أفضل نساء الدنيا ممن كان قبلها أو جد بعدها لأنها إن كانت نبية على قول من يقول بنبوتها ونبوة سارة أم إسحاق نبوة أم موسى محتجاً بكلام الملائكة والوحي إلى أم موسى ، كما يزعم ذلك ابن حزم وغيره ، فلا يمتنع على هذا أن تكون مريم أفضل من سارة أم موسى لعموم قوله :" واصطفاك على نساء العالمين " إذ لم يعارضه غيره والله أعلم
وأما قول الجمهور كما قد حكاه أبو الحسن الأشعري وغيره من أهل السنة والجماعة من أن النبوة مختصة بالرجال ، وليس في النساء نبية فيكون أعلى مقامات مريم كما قال الله تعالى :" ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة " فعلى هذا لا يمتنع أن تكون أفضل الصديقات المشهورات ممن كان قبلها وممن يكون بعدها والله أعلم
وقد جاء ذكرها مقروناً مع آسية بنت مزاحم وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وسلم) ورضي الله عنهن وأرضاهن
وقد روى الإمام أحمد و البخاري ومسلم و الترمذي و النسائي من طرق عديدة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عبد الله بن جعفر ، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :" خير نسائها مريم بنت عمران ، وخير نسائها خديجة بنت خويلد "
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر ، عن قتادة ، عن أنس ، قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :" حسبك من نساء العالمين بأربع : مريم بنت عمران ، وآسية امرأة فرعون ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد "
ورواه الترمذي عن أبي بكر بن زنجويه ، عن عبد الرزاق به وصححه ، ورواه ابن مردويه من طريق بعد الله بن أبي جعفر الرازي وابن عساكر من طريق تميم بن زياد ، كلاهما عن أبي جعفر الرازي ، عن ثابت ، عن أنس قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :" خير نساء العالمين أربع : مريم بنت عمران ، وآسية امرأة فرعون ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد رسول الله "
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن الزهري ، عن ابن المسيب ، قال : كان أبي هريرة يحدث أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال :" خير نساء ركبن الإبل صلاح نساء قريش أحناه على ولد في صغره وأرعاه لزوج في ذات يده " قال أبو هريرة : ولم تركب مريم بعيراً قط
وقد رواه مسلم في صحيحه عن محمد بن رافع وعبد بن حميد ، كلاهما عن عبد الرزاق به
وقال أحمد : حدثنا زيد بن الحباب ، حدثني موسى بن علي سمعت أبي يقول : سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :" خير نساء ركبن الإبل نساء قريش أحناه على ولد في صغره وأرأفه بزوج على قلة ذات يده " قال أبو هريرة : وقد علم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ان ابنة عمران لم تركب الإبل
تفرد به وهو على شرط الصحيح ولهذا الحديث طرق أخر عن أبي هريرة
وقال أبو يعلى الموصلي : حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا داود بن أبي الفرات ، عن علباء ابن أحمر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : خط رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في الأرض أربع خطوط فقال :" أتدرون ما هذا ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد ومريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون " ورواه النسائي من طرق عن داود بن أبي هند
وقد رواه ابن عساكر من طريق أبي بكر عبد الله بن أبي داود سليمان بن الأشعث ، حدثنا يحيى بن حاتم العسكري : أنبأنا بشر بنمهران بن حمدان ، حدثنا محمد بن دينار ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، عن جابر بن عبد الله ، قال : قال رسول الله 0صلى الله عليه وسلم) : " حسبك منهن أربع سيدات نساء العالمين : فاطمة بنت محمد ، وخديجة بنت خويلد ، وآسية بنت مزاحم ، ومريم بنت عمران "
وقال أبو القاسم البغوي : حدثنا وهب بن بقية ، حدثنا خالد بن عبد الله الواسطي ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن عائشة ، أنها قالت لفاطمة : أرأيت حين أكببت على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فبكيت ثم ضحكت ؟ قالت : أخبرني أنه ميت من وجعه هذا فبكيت ، ثم أكببت عليه فأخبرني أني أسرع أهله لحوقاً به وأني سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم بنت عمران فضحكت
وأصل هذا الحديث في الصحيح وهذا إسناد على شرط مسلم وفيه أنهما أفضل الأربع المذكورات
وهكذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا عثمان بن محمد حدثنا جرير ، عن يزيد - هو ابن أبي زياد - عن عبد الرحمن بن أبي نعم ، عن أبي سعيد ، قال : قال رسول الله 0صلى الله عليه وسلم) :" فاطمة سيدة نساء أهل الجنة إلا ما كان من مريم بنت عمران " إسناد حسن وصححه الترمذي ولم يخرجوه ، وقد روي نحوه من حديث علي بن أبي طالب ولكن في إسناده ضعف
والمقصود أن هذا يدل على أن مريم وفاطمة أفضل هذه الأربع ، ثم يحتمل الاستثناء أن تكون مريم أفضل من فاطمة ويحتمل أن يكونا على السواء في الفضيلة
ولكن ورد حديث إن صح عين الاحتمال الأول فقال الحافظ أبو القاسم بن عساكر : أنبأنا أبو الحسين بن الفراء وأبو غالب وأبو عبد الله ابنا البنا ، قالوا : أنبأنا أبو جعفر بن المسلمة ، أنبأنا أبو طاهر المخلص ، حدثنا أحمد بن سليمان ، حدثنا الزبير هو ابن بكار ، حدثنا محمد بن الحسن ، عن عبد العزيز بن محمد ، عن موسى بن عقبة عن كريب ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :" سيدة نساء أهل الجنة مريم بنت عمران ثم فاطمة ثم خديجة ثم آسية امرأة فرعون "
فإن كان هذا اللفظ محفوظاً بثم التي للترتيب فهو مبين لأحد الاحتمالين اللذين دل عليهما الاستثناء ، وتقدم على ما تقدم من الألفاظ التي وردت بواو العطف التي لاتقتضي الترتيب ولا تنفيه والله أعلم
وقد روى هذا الحديث أبو حاتم الرازي عن داود الجعفري عن عبد العزيز بن محمد وهو الدراوردي ، عن إبراهيم عن عقبه ، عن كريب ، عن ابن عباس مرفوعا ، فذكره بواو العطف لا بثم الترتيبية ، فخالفه إسنادا ومتنا فالله أعلم
فأما الحديث الذي رواه ابن مردويه من حديث شعبة ، عن معاوية بن قرة ، عن أبيه قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :" كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا ثلاث : مريم بنت
عمران وآسية امرأة فرعون وخديجة بنت خويلد ، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام " وهكذا الحديث الذي رواه الجماعة إلا أبا داود من طرق ، عن شعبة ، عن عمرو ابن مرة ، عن مرة الهمداني ، عن أبي موسى الأشعري ، قال قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :" كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران ، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام "
فإنه حديث صحيح كما ترى اتفق الشيخان على إخراجه ، ولفظه يقتضي حصر الكمال في النساء في مريم وآسية ، ولعل المراد بذلك في زمانهما فإن كلا منهما كفلت نبيا في حال صغره ، فآسية كفلت موسى الكليم ، ومريم كفلت ولدها عبد الله ورسوله ، فلا ينفي كمال غيرهما في هذه الأمة كخديجة وفاطمة
فخديجة خدمت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قبل البعثة خمسة عشر سنة وبعدها أزيد من عشر سنين ، وكانت له وزير صدق بنفسها ومالها ، رضي الله عنها وأرضاها
وأما فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فإنها خصت بمزيد فضيلة على أخواتها لأنها أصيبت برسول الله (صلى الله عليه وسلم) وبقية أخواتها متن في حياة النبي (صلى الله عليه وسلم)
وأما عائشة فإنها كانت أحب أزواج رسول االله (صلى الله عليه وسلم) إليه ولم يتزوج بكرا غيرها ، لا يعرف في سائر النساء في هذه الأمة - بل ولا في غيرها -أعلم منها ولا أفهم ، وقد غار الله لها حين قال لها أهل الإفك ما قالوا فأنزل الله براءتها من فوق سبع سموات ، وقد عمرت بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قريباً من خمسين سنة تبلغ عنه القرآن والسنة وتفتي المسلمين وتصلح بين المختلفين وهي أشرف أمهات المؤمنين حتى خديجة بنت خويلد أم البنات والبنين في قول طائفة من العلماء السابقين واللاحقين ، والأحشن الوقف فيهما رضي الله عنهما ، وما ذاك إلا لأن قوله (صلى الله عليه وسلم) :" وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام " يحتمل أن يكون عاماً بالنسبة إلى المذكورات وغيرهن ويحتمل أن يكون عاماً بالنسبة إلى ماعدا المذكورات والله أعلم
والمقصود هاهنا ذكر ما يتعلق بمريم بنت عمران عليها السلام ، فإن الله طهرها واصطفاها على نساء عالمي زمانها ، ويحوز أن يكون تفضيلها على النساء ملطقاً كما قدمنا وقد ورد في حديث أنها تكون من أزواج النبي (صلى الله عليه وسلم) في الجنة هي وآسية بنت مزاحم وقد ذكرنا في التفسير عن بعض السلف أنه قال ذلك واستأنس بقوله :" ثيبات وأبكارا " قال : فالثيب آسية ومن الأبكار مريم بنت عمران وقد ذكرناه في آخر سورة التحريم فالله أعلم
قال الطبراني : حدثنا عبد الله بن ناجية ، حدثنا محمد بن سعد العوفي ، حدثنا أبي ، أنبأنا عمي الحسين ، حدثنا يونس بن نفيع ، عن سعد بن جنادة ، هو العوفي ، قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :" إن الله زوجني في الجنة مريم بنت عمران وامرأة فرعون وأخت موسى "
رواه ابن جعفر العقيلي من حديث عبد النور به وزاد فقلت : هنيئاً لك يا رسول الله ثم قال العقيلي : وليس بمحفوظ
وقال الزبير بن بكار : حدثني محمد بن الحسن ، عن يعلى بن المغيرة عن أبي داود ، قال : دخل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على خديجة وهي في مرضها الذي توفيت فيه فقال لها :" بالكره مني ما أري منك يا خديجة ، وقد يجعل الله في الكره خيراً كثيراً ، أما علمت أن الله قد زوجني معك في الجنة مريم بنت عمران وكلثم أخت موسى وآسية امرأة فرعون ، قالت : وقد فعل الله بك ذلك يا رسول الله ؟ قال : نعم قالت : بالرفاء والبنين "
وروى ابن عساكر من حديث بن زكريا الغلابي ، حدثنا العباس بن بكار ، حدثنا أبو بكر الهذلي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) دخل على خديجة وهي في مرض الموت فقال :" يا خديجة إذا لقيت ضرائرك فأقرئيهن مني السلام قالت : يا رسول الله وهل تزوجت قبلي ؟ قال : لا ، ولكن الله زوجني مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وكلثم أخت موسى "
وروى ابن عساكر من طريق سويد بن سعيد ، حدثنا محمد بن صالح بن عمر ، عن الضحاك ومجاهد ، عن ابن عمر ، قال : نزل جبريل إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بما أرسل به وجلس يحدث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) غذ مرت خديجة فقال جبريل : من هذه يا محمد ؟ قال :" هذه صديقة أمتي " قال جبريل معي إليها رسالة من الرب عز وجل يقرئها السلام ويبشرها ببيت في الجنة من قصب بعيد من اللهب لا نصب فيه ولا صخب قالت : الله السلام ومنه السلام والسلام عليكما ورحمة الله وبركاته على رسول الله ، وما ذلك البيت الذي من قصب ؟ قال : لؤلؤة جوفاء بين بيت مريم بنت عمران وبيت آسية بنت مزاحم ، وعما من أزواجي يوم القيامة
وأصل السلام على خديجة من الله وبشارتها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا وصب في الصحيح ، ولكن هذ1 السياق بهذه الزيادات غريب جداً ، وكل من هذها الأحاديث في أسانيدها نظر
وروى ابن عساكر من حديث أبي زرعة الدمشقي ، حدثنا بعد الله بن صالح ، حدثني معاوية ، عن صفوان بن عمرو ، عن خالد بن معدان عن كعب الأحبار أن معاوية سأله عن الصخرة - يعني صخرة بيت المقدس - فقال : الصخرة على نخلة ، والنخلة على نهر من أنهار الجنة ، وتحت النخلة مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم ينظمان سموط أهل الجنة حتى تقوم الساعة
ثم رواه من طريق إسماعيل ، عن عياش ، عن ثعلبة بن مسلم ، عن مسعود ، عن عبد الرحمن ، عن خالد بن معدان ، عن عبادة بن الصامت عن النبي (صلى الله عليه وسلم) بمثله
وهذا منكر من هذا الوجه بل هو موضوع
وقد رواه أبو زرعة عن عبد الله بن صالح ، عن معاوية عن مسعود بن عبد الرحمن ،عن ابن عابد ، أن معاوية سألة كعباً عن صخرة بيت المقدس فذكره
قال الحافظ ابن عساكر : وكونه من كلام كعب الأحبار أشبه
قلت : وكلام كعب الأحبار هذا إنما تلقاه من الإسرائيليات التي منها ما هو مكذوب مفتعل وضعه بعض زنادقتهم أو جهالهم وهذا منه والله أعلم
ذكر ميلاد العبد الرسول عيسى ابن مريم العذراء البتول
قال الله تعالى :" واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا * فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا * قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا * قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا * قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا * قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا * فحملته فانتبذت به مكانا قصيا * فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا * فناداها من تحتها أن لا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا * وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا * فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا * فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا * يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا * فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا * قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا * وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا * وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا * والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا * ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون * ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون * وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم * فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم "
ذكر تعالى هذه القصة بعد قصة زكريا التي هي كالمقدمة لها والتوطئة قبلها ، كما ذكر في سورة آل عمران قرن بينهما في سياق واحد ، وكما قال في سورة الأنبياء :" وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين * فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين * والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين "
وقد تقدم أن مريم لما جعلتها أمها محررة تخدم بيت المقدس ، وأنه كفلها أختها أو خالتها نبي ذلك الزمان زكريا عليه السلام ، وأنه اتخذ لها محراباً وهو المكان الشريف من المسجد ، لا يدخله أحد عليها سواه ، وأنها لما بلغت اجتهدت في العبادة فلم يكن في ذلك الزمان نظيرها في فنون العبادات ، وظهر عليها من الأحوال ما عبطها به زكريا عليه السلام ، وأنها خاطبتها الملائكة بالبشارة لها باصطفاء الله لها وبأنها سيهب لها ولداً زكياً يكون نبياً كريماً طاهراً مكرماً مؤيداً بالمعجزات ، فتعجبت من وجود ولد من غير والد ، لأنها لا زوج لها ، ولا هي ممن تنزوج فأخبرتها الملائكة بأن الله قادر على ما يشاء إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون ، فاستكانت لذلك وأنابت وسلمت لأمر الله ، وعلمت أن هذا فيه محنة عظيمة لها ، فإن الناس يتكلمون فيها بسببه ، لأنهم لا يعلمون حقيقة الأمر ، وإنما ينظرون إلى ظاهر الحال من غير تدبر ولا تعقل
وكانت إنما تخرج من المسجد في زمن حيضها أو لحاجة ضرورية لا بد منها من استقاء ماء أو تحصيل غذاء ، فبينما هي يوماً قد خرجت لبعض شئونها و " انتبذت " أي انفردت وحدها شرقي المسجد الأقصى إذا بعث الله إليها الروح الأمين جبريل عليه السلام " فتمثل لها بشرا سويا " فلما رأته " قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا " قال أبو العالية : علمت أن التقى ذو نهية وهذا يرد قول من زعم أنه كان في بني إسرائيل رجل فاسق مشهور بالفسق اسمه تقي فإن هذا قول باطل بلا دليل ، وهو من أسخف الأقوال
" قال إنما أنا رسول ربك " أي خاطبها الملك " قال إنما أنا رسول ربك " أي لست ببشر ولكني ملك بعثني الله عليك " لأهب لك غلاما زكيا "
" قالت أنى يكون لي غلام " أي كيف يكون لي غلام أو يوجد لي ولد " ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا " أي ولست ذات زوج وما أنا ممن يفعل الفاحشة " قال كذلك قال ربك هو علي هين " أي فأجابها الملك عن تعجبها من وجود ولد منها والحالة هذه قائلاً : " كذلك قال ربك " أي وعد أنه سيخلق منك غلاماً ولست بذات بعل ، ولا تكونين ممن تبغين " هو علي هين " أي وهذا سهل عليك ويسير لديه ، فإنه على ما يشاء قدير
وقوله :" ولنجعله آية للناس " أي ولنجعل خلقه والحالة هذه دليلاً على كمال قدرتنا على أنواع الخلق ، فإنه تعالى خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى ، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى ، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر ، وخلق بقية الخلق من ذكر وأنثى وقوله " ورحمة منا " أي نرحم به العباد بأن يدعوهم إلى الله في صغره وكبره في طفوليته وكهوليته ، بأن يفردوا الله بالعبادة وحده لا شريك له وينزهوه عن اتخاذ الصاحبة والأولاد والشركان والنظراء والأضداد والأنداد
وقوله :" وكان أمرا مقضيا " يحتمل أن يكون هذا من تمام كلام جبريل معها ، يعني أن هذا أمر قضاه وحتمه وقدره وقرره ، وهذا معنى قول محمد بن إسحاق واختياره ابن جرير ، ولم يحك سواه والله أعلم
ويحتمل أن يكون قوله :" وكان أمرا مقضيا " كناية عن نفخ جبريل فيها كما قال تعالى :" ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا "
فذكر غير واحد من السلف أن جبريل نفخ في جيب رعها فنزلت النفخة إلى فرجها فحملت من فورها كما تحمل المرأة عند جماع بعلها ومن قال إنه نفخ في فمها أو أن الذي كان يخاطبها هو الروح الذي ولج فيها من فمها ، فقوله خلاف ما يفهم من سياقات هذه القصة في محالها من القرآن ، فإن هذا السياق يدل على أن الذي أرسل ملك من الملائكة وهو جبريل عليه السلام ، وأنه إنما نفخ فيها ولم يواجه الملك الفرج بل نفخ في جيبها فنزلت النفخة إلى فرجها فانسلكت فيه كما قال تعالى :" فنفخنا فيه من روحنا " فدل على أن النفخة ولجت فيه لا في فمها ، كما رواه السدي بإسناده عن بعد الصحابة
ولهذا قال تعالى :" فحملته " أي فحملت ولدها " فانتبذت به مكانا قصيا " وذلك لأن مريم عليها السلام لما حملت ضافت به ذرعاً ، علمت أن كثيراً من الناس سيكون منهم كلام في حقها ، فذكر غير واحد من السلف منهم وهب بن منبه أنها لما ظهرت عليها مخايل الحمل كان أول من فطن لذلك رجل من عباد بني إسرائيل يقال له يوسف بن يعقوب النجار ، وكان إبن خالها فجعل يعجب من ذلك عجباً شديداً ، وذلك لما يعمل من ديانتها ونزاهتها وعبادتها وهو مع ذلك يراها حبلى وليس لها زوج ، فعرض لها ذات يوم في الكلام فقال : يا مريم هل يكون زرع من غير بذر ؟ قالت : نعم ، فمن خلق الزرع الأول ثم قال : فهل يكون ولد من غير ذكر ؟ قالت : نعم إن الله خلق آدم من ذكر ولا أنثى قال لها : فأخبريني خبرك فقال : إن الله بشرني " بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين * ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين "
ويروي مثل هذا عن زكريا عليه السلام أنه سألها فأجابته بمثل هذا والله أعلم
وذكر السدي بإسناده عن الصحبة : أن مريم دخلت يوماً على أختها فقالت لها أختها : أشعرت أني حبلى ؟ فقال مريم : وشعرت أيضاً أني حبلى ؟ فاعتنقتها وقالت لها أم يحيى : إني أرى ما في بطني يسجد لما في بطنك وذلك قوله :" مصدقا بكلمة من الله " ومعنى السجود هاهنا الخضوع والتعظيم ، كالسجود عند المواجهة للسلام كما كان في شرع من قبلنا ، وكما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم : وقال أبو القاسم ، قال مالك يك بلغني أن عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا ابنا خالة وكان حملهما جميعاً معاً ، فبلغني أن أم يحيى قالت لمريم : إني أرى ما في بطني يسجد لما في بطنك قال مالك : أرى ذلك لتفضيل عيسى عله السلام ، لأن الله تعالى جعله يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص وراه ابن أبي حاتم
وروى عن مجاهد قال : قالت مريم : كنت إذا خلوت حدثني وكلمني وإذا كنت بين الناس سبح في بطني
ثم الظاهر أنها حملت به تسعة أشهر كما تحمل النساء ويضعن لميقات حملهن ووضعهن ، إذ لو كان خلاف ذلك لذكر
وعن ابن عباس وعكرمة أنها حملت به ثمانية أشهر ، وعن ابن عباس ما هو إلا أن حملت به فوضعته ، قال بعضهم : حملت به تسع ساعات واستأنسوا لذلك بقوله :" فحملته فانتبذت به مكانا قصيا * فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة "
والصحيح أن تعقيب كل شيء بحبسه ، كقوله :" فتصبح الأرض مخضرة " وكقوله :" ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين " ومعلوم أن بين كل حالين أربعين يوماً كما ثبت في الحديث المتفق عليه
قال محمد بن إسحاق : شاع واشتهر في بني إسرائيل أنها حامل ، فما دخل على أهل بيت ما دخل على آل بيت زكريا
قال : واتهمها بعض الزنادقة بيوسف الذي كان يتعبد معها في المسجد ، وتوارت عنهم مريم واعتزلتهم وانتبذت مكاناً قصياً وقوله :" فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة " أي فألجأها واضطرها الطلق إلى جذع النخلة ، وهو بنص الحديث الذي رواه النسائي بإسناد لا بأس به عن أنس مرفوعاً والبيهقي بإسناد وصححه عن شداد بن أوس مرفوعاً أيضاً بيت لحم الذي بني عليه بعض ملوك الروم فيما بعد على ما سنذكره هذا البناء المشاهد الهائل
" قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا " فيه دليل على جواز تمني الموت عند الفتن ، وذلك أنها علمت أن الناس يتهمونها ولا يصدقونها بل يكذبونها حين تأتيهم بغلام على يدها ، مع أنها قد كانت عندهم من العابدات الناسكات المجاورات في المسجد المنقطعات إليه المعتكفات فيه ، ومن بيت النبوة والديانة فحملت بسبب ذلك من الهم ما تمنت أو لو كانت ماتت قبل هذا الحال أو كانت " نسيا منسيا " أي لم تخلق بالكلية
وقوله :" فناداها من تحتها " وقرئ من " تحتها " على الخفض
وفي المضمر قولان ، أحدهما أنه جبريل قاله العوفي عن ابن عباس قال : ولم يتكلم عيسى إلا بحضرة القوم وبهذا قال سعيد بن جبير وعمر بن ميمون والضحاك والسدي وقتادة وقال مجاهد والحسن وابن زيد وسعيد بن جبير في رواية : هو ابنها عيسى ، واختاره ابن جرير
وقوله :" أن لا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا " قيل النهر وإليه ذهب الجمهور وجاء فيه حديث رواه الطبراني لكنه ضعيف واختاره ابن جرير وهو الصحيح وعن الحسن والربيع بن أنس وابن أسلم وغيرهم أنه ابنها والصحيح الأول لقوله :" وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا " فذكر الطعام والشراب ولهذا قال :" فكلي واشربي وقري عينا "
ثم قيل : كان جذع النخلة يابساً وقيل كانت نخلة مثمرة فالله أعلم ويحتمل أنها كانت نخلة ، لكنها لم تكن مثمرة إذا ذاك لأن ميلاده كان في زمن الشتاء وليس ذاك وقت ثمر ، وقد يفهم ذلك من قوله تعالى على سبيل الامتنان " تساقط عليك رطبا جنيا "
قال عمرو بن ميمون : ليس شيء أجد للنفساء من التمر والرطب ثم تلا هذه الآية وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين حدثنا شيبان ، حدثنا مسرور بن سعيد التميمي ، حدثنا عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي عن عروة بن رويم عن علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :" أكرموا عمتكم النخلة فإنها خلقت من الطين الذي خلق منه آدم وليس من الشجر شيء يلقح غيرها " وقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :" أطعموا نساءكم الولد الرطب ، فإن لم يكن رطب فتمر ، وليس من الشجر شجرة أرم على الله من شرجة نزلت تحتها مريم بنت عمران "
وكذا رواه أبو يعلى في مسنده عن شيبان بن فروخ ، عن مسروق بن سعيد ، وفي رواية مسرور بن سعد ، والصحيح مسرور بن سعيد التميمي ، أورد له ابن عدي هذا الحديث عن الأوزاعي به ، ثم قال : وهو منكر الحديث ولم أسمع بذكره إلا في هذا الحديث
وقال ابن حبان : يروى عن الأوزاعي المناكير الكثيرة التي لا يجوز الاحتجاج بمن يرويها قوله :" فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا " وهذا من تمام كلام الذي ناداها من تحتها قال :" كلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا " أي فإن رأيت أحداً من الناس " فقولي " له أي بلسان الحال والإشارة " إني نذرت للرحمن صوما " أي صمتاً ، وكان من صومهم في شريعتهم ترك الكلام والطعام قاله قتادة والسدي وابن أسلم ، ويدل على ذلك قوله :" فلن أكلم اليوم إنسيا " فأما في شريعتنا فيكره للصائم صمت يوم إلى الليل
وقوله تعالى :" فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا * يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا " ذكر كثير من السلف ممن ينقل عن أهل الكتاب أنهم لما افتقدوها من بين أظهرهم ذهبوا في طلبها فمروا على محلتها والأنوار حولها ، فلما واجهوها وجدوا معها ولدها فقالوا لها :" يا مريم لقد جئت شيئا فريا " أي أمراً عظيماً منكراً وفي هذا الذي قالوه ، مع أنه كلام ينقض أوله آخره وذلك لأن ظاهر سياق القرآن العظيم يدل على أنها حملته بنفسها وأتت به قومها وهي تحمله قال ابن عباس : وذلك بعد ما تعالت من نفاسها بعد أربعين يوماً
والمقصود أنهم لما رأوها تحمل معها ولدها " قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا " والفرية هي الفعلة المنكرة العظيمة من الفعال والمقال
ثم قالوا لها :" يا أخت هارون " قيل شبهوها بعابد من عباد زمانهم كانت تساميه في العبادة ، وكان اسمه هارون قاله سعيد بن جبير وقيل أرادوا بهارون أخا موسى شبهوها به في العبادة ، وأخطأ محمد بن كعب القرظي في زعمه أنها أخت موسى وهارون نسباً فإن بينهما من الدهور الطويلة ما لا يخفى على أدنى من عنده من العلم ما يرده عن هذا القول الفظيع ، وكأنه غره أن في التوراة أن مريم أخت موسى وهارون ضربت بالدف يوم نجى الله موسى وقومه وأغرف فوعون وملأه ، فاعتقد أن هذه هي هذه
وهذا في غاية البلان والمخالفة للحديث الصحيح من نص القرآن كما قررناه في التفسير مطولاً ولله الحمد والمنة
وقد ورد في الحديث الصحيح الدال على أنه قد كان لها أخ اسمه هارون وليس في ذكر قصة ولادتها وتحرير أمها لها ما يدل على أنها ليس لها أخ سواها والله أعلم
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن إدريس ، سمعت أبي يذكره ، عن سماك ، عن علقمة ابن وائل ، عن المغيرة بن شعبة قال : بعثني رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى نجران فقالوا : أرأيت ما تقرءون :" يا أخت هارون " وموسى قبل عيسى بكذا وكذا ؟ قال فرحت فذكرت ذلك لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال :" ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمعون بالأنبياء والصالحين قبلهم "
وكذا رواه مسلم والنسائي و الترمذي من حديث عبد الله بن إدريس ، وقال الترمذي : حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديثه ، وفي رواية :" ألا أخبرتهم أنهم كانوا يتسمون بأسماء صالحيهم وأنبيائهم "
وذكر قتادة وغيره أنهم كانوا يكثرون من التسمية بهارون حيث قيل إنه حضر بعض جنائزهم بشر كثير منهم ممن يسمى بهارون أربعون ألفاً فالله أعلم
والمقصود أنهم قالوا :" يا أخت هارون " ودل الحديث على أنها قد كان لها أخ نسبي اسمه هارون وكان مشهوراً بالدين والصلاة والخير ، ولهذا قالوا :" ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا " أي لست من بيت هذا شميتهم ولا سجيتهم لا أخوك ولا أمك ولا أبوك فاتهموها بالفاحشة العظمى ورموها بالداهية الدهياء
فذكر ابن جرير في تاريخه أنهم اتهموا بها زكريا وأرادوا قتله ففر منهم فلحقوه وقد انشقت له الشجرة فدخلها وأمسك إبليس بطرف ردائه فنشره فيها كما قدمناه ، ومن المنافقين من اتهمها بابن خالها يوسف بن يعقوب النجار
فلما ضاق الحال وانحصر المجال وامتنع المقال ، عظم التوكل على ذي الجلال ، ولم يبقى إلا الإخلاص والاتكال " فأشارت إليه " أي خاطبوه وكلموه فإن جوابكم عليه وما تبغون من الكلام لديه ، فعندها " قالوا " من كان منهم جباراً شقياً :" كيف نكلم من كان في المهد صبيا " أي كيف تحيلينا في الجواب على صبي صغير لا يعقل الخطاب ، وهو مع ذلك رضيع في مهده ولا يميز بين مخض وزبده ، وما هذا منك إلا على سبيل التهكم بنا والاستهزاء والنقص لنا والازدراء إذ لا تردين علينا قولاً نطقياً ، بل تحيلين في الجواب على من كان في المهد صبياً
فعندها :" قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا * وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا * وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا * والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا "
هذا أول كلام تفوه به عيسى ابن مريم ، فكان أول ما تكلم به أن " قال إني عبد الله " اعترف لربه تعالى بالعبودية ، وأن الله ربه فنزه جناب الله عن قول الظالمين في زعمهم أنه ابن الله ، بل هو عبده ورسوله وابن أمته ، ثم برأ أمه مما نسبها إليه الجاهلون وقذفوها به ورموها بسببه بقوله :" آتاني الكتاب وجعلني نبيا " فإن الله لا يعطي النبوة من هو كما زعموا لعنهم الله وقبحهم ، وكما قال تعالى :" وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما " وذلك أن طائفة من اليهود في ذلك الزمان قالوا : إنها حملت به من زنى في زمن الحيض ، لعنهم الله فبأها الله من ذلك وأخبر عنها أنها صديقة واتخذ ولدها نبياً مرسلاً أحد أولي العزم الخمسة الكبار ولهذا قال ك" وجعلني مباركا أين ما كنت " وذلك أنه حيث كان دعا إلى عبادة الله وحده لا شريك له ونزه جنابه عن النقص والعيب من اتخاذ الولد والصاحبة تعالى وتقدس " وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا " وهذه وظيفة العبيد في القيام بحق العزيز الحميد بالصلاة ، والإحسان إلى الخيقة بالزكاة ، وهي تشتمل على طهارة النفوس من الأخلاف الرذيلة وتطهير الأموال الجزيلة بالعطية للمحاويج على اختلاف الأصناف وقري الأضياف والنفقات على الزوجات والأرقاء والقرابات وسائر وجوه الطاعات وأنواع القربات
ثم قال :" وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا " أي وجعلني براً بوالدتي وذلك أنه تأكد حقها عليه لتحض جهتها إذ لا والد له سواها ، فسبحان من خلق الخيقة وبرأها وأعطى كل نفس هداها " ولم يجعلني جبارا شقيا " أي لست بفظ ولا غليظ ، ولا يصدر مني قول ولا فعل ينافي أمر الله وطاعته
" والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا " وهذه المواطن الثلاثة اليت تقدم الكلام عليها في قصة يحي بن زكريا عليهما السلام
ثم لما ذكر تعالى قصته على الجلية وبين أمره ووضحه وشرحه قال :" ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون * ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون " كما قال تعالى بعد ذكر قصته وما كان من أمره في آل عمران :" ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم * إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون * الحق من ربك فلا تكن من الممترين * فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين * إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم * فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين "
ولهذا لما قدم وفد نجران وكانوا ستين راكباً يرجع أمرهم إلى أربعة عشر منهم ، ويؤول أمر الجميع إلى ثلاثة هم أشرافهم وساداتهم وهم العاقب والسيد وأبو حارثة بن علقمة ، فجعلوا يناظرون في أمر المسيح فأنزل الله صدر سورة آل عمران في ذلك ، وبين أمر المسيح وابتداء خلقه وخلق أمه من قبله وأمر رسوله بأن يباهلهم إن لم يستجيبوا له ويتبعوه ، فلما رأوا عينيها وأذنيها نطصوا وامتنعوا عن المباهلة وعدلوا إلى المسالة والموادعة ، وقال قائلهم وهو العقب عبد المسيح : يا معشر النصارى لقد علمتم أن محمداً لنبي مرسل ، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم ، ولقد علمتم أنه ما لاعن قوم نبياً قط فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم وإنها للاستئصال منكم إن فعلتم ، فإن كنتم قد أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم ، فطلبوا ذلك من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وسألوه أن يضرب عليهم جزية وأن يبعث معهم رجلاً أميناً ، فبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح وقد بينا ذلك في تفسير آل عمران وقد بسطنا هذه القسة في السيرة النبوية
والمقصود أن الله تعالى بين أمر المسيح فقال لرسوله :" ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون " يعني من أنه عبد مخلوق من امرأة من عباد الله ، ولهذا قال :" ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون " أي لا يعجزه شيء ولا يكرنه ولا يؤوده بل هو القدير الفعال لما يشاء " إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون " وقوله :" وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم " هو من تمام كلام عيسى لهم في المهد ، أخبرهم أن الله ربه وربهم وإلهه وإلههم ، وأن هذا هو الصراط المستقيم
قال الله تعالى :" فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم " أي فاختلف أهل ذلك الزمان ومن بعدهم فيه
فمن قائل من اليهود : إنه ولد زنية ، واستمروا على كفرهم وعنادهم
وقابلهم آخرون في الكفر فقالوا : هو الله ، وقال آخرون : هو ابن الله
وقال المؤمنون : هو عبد الله ورسوله ، وابن أمته وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، وهؤلاء هم الناجون المثابون والمؤيدون المنصورون ، ومن خالفهم في شيء من هذه القيود فهم الكافرون الضالون الجاهلون ، وقد توعدهم العي العظيم الحكيم العليم بقوله :" فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم "
قال البخاري : حدثنا صدقة بن الفضل ، أنبأنا الوليد ، حدثنا الأوزاعي ، حدثني عمير بن هانئ ، حدثني جنادة بن أبي أمية ، عن عبادة بن الصامت عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال :" من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل "
قال الوليد : فحدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، عن عمير ، عن جنادة : وزاد :" من أبواب الجنة الثمانية أيها شاء "
وقد رواه مسلم عن داود بن رشيد ، عن الوليد ، عن جابر به ومن طريق أخري عن الأوزاعي به
باب بيان أن الله تعالى منزه عن الولد
تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً
وقال تعالى في آخر سورة مريم :" وقالوا اتخذ الرحمن ولدا * لقد جئتم شيئا إدا " شيئاً عظيماً من القول وزوراً " تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا * أن دعوا للرحمن ولدا * وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا * إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا * لقد أحصاهم وعدهم عدا * وكلهم آتيه يوم القيامة فردا "
فبين أنه تعالى لا ينبغي له الولد لأنه خالق كل شيء ومالكه ، وكل شيء فقير إليه ، خاضع ذليل لديه وجميع سكان السموات والأرض عبيده ، هو ربهم لا إله إلا هو لا رب سواه كما قال تعالى :" وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون * بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم * ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل * لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير "
فبين أنه خالف كل شيء فكيف يكون له ولد ، والولد لا يكون إلا بين شيئين متناسبين ، والله تعالى لا نظير له ولا شبيه ولا عديل له ، فلا صاحبة له ، فلا يكون له ولد كما قال تعالى :" قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد " يقرر أنه الأحد الذي لا نظير له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله " الصمد " وهو السيد الذي كمل علمه وحكمته ورحمته وبلغ جميع صفاته " لم يلد " أي لم يوجد منه ولد " ولم يولد " أي ولم يتولد عن شيء قبله " ولم يكن له كفوا أحد " أي وليس له عدل ولا مكافئ ولا مساو فقطع النظير المداني والأعلى والمساوي ، فانتفى أن يكون له ولد ، إذ لا يكون الولد إلا متولداً بين شيئين متعادلين أو متقاربين ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً
وقال تبارك وتعالى وتقدس :" يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا * لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا * فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا "
ينهى تعالى أهل الكتاب ومن شابههم عن الغلو والإطراء في الدين وهو مجاوزة الحد ، فالنصارى لعنهم الله غلوا وأطروا المسيح حتى جاوزوا الحد
فكان الواجب عليهم أن يعتقدوا أنه عبد الله ورسوله وابن أمته العذراء البتول التي أحصنت فرجها فبعث الله الملك جبريل إليها فنفخ فيها من أمر الله نفخة حملت منها بولدها عيسى عليه السلام والذي اتصل بها من الملك هي الروح المضافة إلى الله إضافة تشريف وتكريم ، وهي مخلوقة من مخلوقات الله تعالى كما يقول : بيت الله وناقة الله وعبد الله ، وكذا روح الله أضيفت إليه تشريفاً لها وتكريماً وسمى عيسى بها لأنه كان بها من غير أب وهي الكلمة أيضاً التي عنها خلق وبسببها وجد كما قال تعالى :" إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون " وقال تعالى :" وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون * بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون "
وقال تعالى :" وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون "
فأخبر تعالى أن اليهود والنصارى عليهن لعائن الله ، كل من الفريقين ادعوا على الله شططاً وزعموا أن له ولداً ، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً ، وأخبر أنهم ليس لهم مستند فيما زعموه ولا فيما ائتفكوه ، إلا مجرد القول ومشابهة من سبقهم إلى هذه المقالة الضالة تشابهت قلوبهم
وذلك أن الفلاسفة عليهم لعنة الله زعموا أن العقل الأول صدر عن واجب الوجود الذي يعبرون عنه بعل العلل والمبدأ الأول ، وأنه صدر عن العقل الأول عقل ثان ونفس وفلك ، ثم صدر عن الثاني كذلك حتى تناهب العقول إلى عشرة والنفوس إلى تسعة والأفلاك إلى تسعة ، باعبارات فاسدة ذكروها واختيارات باردة أوردوها ولبسط الكلام معهم وبيان جهلهم وقلة عقلهم موضع آخر
وهكذا طوائف من مشركي العرب زعموا لجهلهم أن الملائكة بنات الله وأنه صاهر سروات الجن فتولد منها الملائكة تعالى الله عما يقولون وتنزه عما يشركون كما قال تعالى : " وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون " وقال تعالى :" فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون * أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون * ألا إنهم من إفكهم ليقولون * ولد الله وإنهم لكاذبون * أصطفى البنات على البنين * ما لكم كيف تحكمون * أفلا تذكرون * أم لكم سلطان مبين * فاتوا بكتابكم إن كنتم صادقين * وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون * سبحان الله عما يصفون * إلا عباد الله المخلصين "
قال تعالى :" وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون * لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون * يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون * ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين "
وقال تعالى في أول سورة الكهف وهي مكية :" الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا * قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا * ماكثين فيه أبدا * وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا * ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا "
وقال تعالى :" قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون * قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون * متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون "
فهذه الآيات المكيات الكريمات تشمل الرد على سائر فرق الكفرة من الفلاسفة ومشركي العرب واليهود والنصارى الذين ادعوا وزعموا بلا علم أن لله ولدا سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون المعتدون علواً كبيراً
ولما كانت النصارى عليهم لعنة الله المتتابعة إلى يوم القيامة من أشهر من قال بهذه المقالة ذكروا في القرآن كثيراً للرد عليهم وبيان تناقضهم وقلة علمهم وكثرة جهلهم ، وقد تنوعت أقوالهم في كفرهم ، وذلك أن الباطل كثير التشعب والاختلاف والتناقض
وأما الحق فلا يختلف ولا يضطرب قال الله تعالى :" ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا " فدل على أنه الحق يتحد ويتفق والباطل يختلف ويضطرب فطائفة من ضلالهم وجهالهم زعموا أن المسيح هو الله تعالى ، وطائفة قالوا هو ابن الله ، عز الله وجل وطائفة قالوا هو ثالث ثلاثة جل الله
قال الله تعالى في سورة المائدة :" لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير " فأخبر تعالى عن كفرهم وجهلهم وبين أنه الخالق القادر على كل شيء وأنه رب كل شيء ومليكه وإلهه وقال في أواخرها :" لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار * لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم * أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم * ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون "
حكم تعالى بكفرهم شرعا وقدرا ، فأخبر أن هذا صدر منهم مع أن الرسول إليهم هو عيسى ابن مريم ، وقد بين لهم أنه عبد مربوب مخلوق مصور في الرحم داع إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، وتوعدهم على خلاف ذلك بالنار وعدم الفوز بدار القرار والخزء في الدار الآخرة والهوان والعار ، ولهذا قال :" إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار "
ثم قال : " لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد " قال ابن جرير وغيره : المراد بذلك قولهم بالأقانيم الثلاثة : أقنوم الأب وأقنوم الابن وأقنوم الكلمة المنبثقة من الأب والابن ، على اختلافهم في ذلك ما بين المليكية واليعقوبية والنسطورية ، عليهم لعائن الله كما سنبين كيفية اختلافهم في ذلك ومجامعهم الثلاثة في زمن قسطنطين ابن قسطس ، وذلك بعد المسيح بثلاثمائة سنة وقبل البعثة المحمدية بثلاثمائة سنة
ولهذا قال تعالى :" وما من إله إلا إله واحد " أي وما من إله إلا الله وحده لا شريك له ولا نظير له ولا كفؤ له ولا صاحبة له ولا ولد ، ثم توعدهم وتهددهم فقال :" وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم " ثم دعاهم برحمته ولطفه إلى التوبة والاستغفار من هذه الأمور الكبار والعظائم التي توجب النار فقال :" أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم "
ثم بين حال المسيح وأمه وأنه عبد رسول وأمه صديقة ، أي ليست بفاجرة كما يقول اليهود لعنهم الله ، وفيه دليل على أنها ليست بنبية كما زعمه طائفة من علمائنا وقوله :" كانا يأكلان الطعام " كناية عن خروجه منهما كما يخرج من غيرهما ، أي ومن كان بهذه المثابة كيف يكون إلهاً ! تعالى الله عن قولهم وجهلهم علواً كبيراً
وقال السدي وغيره ، المراد بقوله :" لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة " زعمهم في عيسى وأمه أنهما الإلهان مع الله ، يعني كما بين تعالى كفرهم في ذلك بقوله في آخر هذه السورة الكريمة :" وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب * ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد * إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم "
يخبر تعالى أنه يسأل عيسى ابن مريم عليه السلام يوم القيامة على سبيل الإكرام له والتفريغ والتبويخ لعابديه ممن كذب عليه وافترى وزعم أنه ابن الله ، أو أنه الله أو أنه شريكه ، تعالى الله عما يقولون ، فيسأله وهو يعلم أنه لم يقع منه ما يسأله عنه ولكن لتوبيخ من كذب عليه فيقول له :" أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك " أي تعاليت أن يكون معك شريك " ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق " أي ليس هذا يستحقه أحد سواك " إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب " وهذا تأدب عظيم في الخطاب والجواب " ما قلت لهم إلا ما أمرتني به " أي ما قلت غير ما أمرتني عليه حين أرسلتني إليهم وأنزلت علي الكتاب الذي كان يتلى عليهم ثم فسر ما قاله لهم بقوله :" أن اعبدوا الله ربي وربكم " أي خالقي وخالقكم ورازقي ورازقكم " وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني " أي رفعتني إليك حين أرادوا قتلي وصلبي فرحمتني وخلصتني منهم وألقيت شبهي على أحدهم حتى انتقموا منه كان ذلك " كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد "
ثم قال على وجه التفويض إلى الرب عز وجل والتبري من أهل النصرانية :" إن تعذبهم فإنهم عبادك " أي وهم يستحقون ذلك " إن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " وهذا التفويض والإسناد إلى المشيئة بالشرط لا يقتضي وقوع ذلك ، ولهذا قال :" فإنك أنت العزيز الحكيم " ولم يقل الغفور الرحيم
وقد ذكرنا في التفسير ما رواه الإمام أحمد عن أبي ذر أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قام بهذه الآية الكريمة ليلة حتى أصبح :" إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " وقال :" إني سألت ربي عز وجل الشفاعة لأمتي فأعطانيها وهي نائلة إن شاء الله تعالى لمن لا يشرك بالله شيئاً " وقال :" وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين * لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين * بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون * وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون * يسبحون الليل والنهار لا يفترون "
وقال تعالى :" لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار * خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفار "
وقال تعالى :" قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين * سبحان رب السماوات والأرض رب العرش عما يصفون "
وقال تعالى :" وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا "
وقال تعالى :" قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد "
وثبت في الصحيح عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه قال :" يقول الله تعالى : شتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك ، يزعم أن لي ولداً وأنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم ين لي كفواً أحد "
وفي الصحيح أيضاً عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه قال :" لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله ، إنهم يجعلون له ولداً وهو يزرقهم ويعافيهم "
ولكن ثبت في الصحيح أيضاً عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه قال :" إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته " ثم قرأ :" وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد "
وهكذا قوله تعالى :" وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير "
وقال تعالى :" نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ " وقال تعالى :" قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون * متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون " وقال تعالى :" فمهل الكافرين أمهلهم رويدا "
ذكر منشأ عيسى ابن مريم عليهما السلام ومرباه في صغره وصباه
وبيان بدء الوحي إليه من الله تعالى
قد تقدم أنه ولد ببيت لحم قريبا من بيت المقدس
وزعم وهب بن منبه أنه ولد بمصر وأن مريم سافرت هي ويوسف بن يعقوب النجار وهي راكبة على حمار ليس بينهما وبين الإكاف شيء
وهذا لا يصح ، والحديث الذي تقدم ذكره دلياط على أن مولده كان ببيت لحم ، ذكرنا ، ومهما عارضه فباطل
وذكر وهب بن منبه أنه لما خرت الأصنام يومئذ في مشارق الأرض ومغاربها ، وأن الشياطين حارت في سبب ذلك حتى كشف لهم أبليس الكبير أمر عيسى فوجدوه في حجر أمه والملائكة محدقة به ، وأنه ظهر نجم عظيم في السماء وأن ملك الفرس أشفق من ظهروه فسأل الكهنة عن ذلك فقالوا : هذا لمولد عظيم في الأرض ، فبعث رسالة ومعهم ذهب ومر ولبان هدية إلى عيسى ، فلما قدموا الشام سألهم ملكهم عما أقدمهم فذكروا له ذلك ، فسأل عن ذلك الوقت فإذا قد ولد فيه عيسى ابن مريم ببيت المقدس واشتهر أمره بسبب كلامه في المهد ، فأرسلهم إليه بما معهم وأرسل معهم من يعرفه له ليتوصل إلى قتله إذا رسل ملك الشام إنما جاءوا ليقتلوا ولدك فاحتملته فذهبت به إلى مصر ، فأقامت به حتى بلغ عمره اثنتي عشرة سنة ، وظهرت عليه كرامات ومعجزات في حال صغره فذكر منها الدهقان الذي نزلوا عنده افتقد مالاً من داره وكانت داره لا يسكنها إلا الفقراء والضعفاء والمحاويج فلم يدر من أخذها ، وعز ذلك على مريم عليها السلام وشق على الناس وعلى رب المنزل وأعياهم أمرها ، فلما رأى عيسى عليه السلام ذلك عمد إلى رجل أعمى وآخر مقعد من جملة من هو منقطع إليه فقال للأعمى : احمل هذا المقعد وانهض به فقال : إني لا أستطيع ذلك فقال : بلى كما فعلت أنت وهو حين أخذتما هذا المال من تلك الكوة في الدار فلما قال ذلك صدقاه فيما قال وأتيا بالمال فعظم عيسى في أعين الناس وهو صغير جداً
ومن ذلك أن ابن الدهقان عمل ضيافة للناس بسبب طهور أولاده ، فلما اجتمع الناس وأطعمهم ثم أراد أن يسقيهم شراباً - يعني خمراً - كما كانوا يصنعون في ذلك الزمان لم يجد في جراره شيئاً فشق ذلك عليه ، فلما رأى عيسى ذلك منه قام فجعل يمر على تلك الجرار ويمر يده على أفواههم فلا يفعل بجرة منها ذلك إلا امتلأت شراباً من خيار الشراب ، فعتعجب الناس من ذلك جداً وعظموه وعرضوا عليه وعلى أمه مالاً جزيلاً فلم يقبلاه وارتحلا قاصدين بيت المقدس والله أعلم
وقال إسحاق بن بشر : أنبأنا عثمان بن ساج وغيره ، عن موسى ابن وردان ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد ، وعن مكحول عن أبي هريرة قال : إن عيسى ابن مريم أول ما أطلق الله لسانه بعد الكلام الذي تكلم به وهو طفل ، فمجد الله تمجيداً لم تسمع الآذان بمثله لم يدع شمساً ولا قمراً ولا جبلاً ولا نهراً ولا عيناً إلا ذكره في تمجيده فقال : اللهم أنت القريب في علوك ، المتعال في دنوك ، الرفيع على كل شيء من خلقك ، أنت الذي خلقت سبعاً في الهواء بكلماتك مستويات طباقاً أجبن وهي دخان من فرقك فأتين طائعات لأمرك ، فيهن ملائكتك يسبحون قدسك لتقديسك وجعلت فيهن نوراً على سواد الظلام وضياء من ضوء الشمس بالنهار ، وجعلت فيهن الرعد المسبح بالحمد ، فبعزتك يجلو ضوء ظلمتك وجعلت فيهن مصابيح يهتدي به في الظلمات الحيران ، فتباركت اللهم في مفطور سماواتك وفيما دحوت من أرضك دحوتها على الماء فمسكتها على تيار الموج الغامر ، فأذللتها إزلال التظاهر ، فذل لطاعتك صعبها واستحيا لأمرك أمرها وطبعت بعزتك أمواجها ، ففجرت فيها بعد البحور الأنهار ومن بعض الأنهار الجداول الصغار ومن بعد الجداول ينابيع العيون الغزار ، ثم أخرجت منها الأنهار والأشجار والثمار ثم جعلت على ظهرها الجبال فوتدتها أوتاداً على ظهر الماء ، فأطاعت أطوادها وجلمودها
فتباركت اللهم ! فمن يبلغ بنعته نعتك أم من يبلغ صفتك ؟ تنشر السحاب وتفك الرقاب وتقضي الحق وأنت خير الفاصلين ، لا إله إلا أنت سبحانك أمرت أن نستغفرك من كل ذنب ، لا إله إلا أنت سبحانك سترت السموات عن الناس ، لا إله إلا أنت سبحانك إنما يخشاك من عبادك الأكياس ، نشهد أنك لست بإله استحدثناك ، ولا رب يبيده ذكره ، ولا كان معك شركاء فندعوهم ونذرك ، ولا أعانك على خلفنا أحد فنشك فيك ، نشهد أنك أحد صمد لم تلد ولم تولد ، ولم يكن لك كفواً أحد
وقال إسحاق بن بشر ، عن جويبر ومقاتل ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، أن عيسى ابن مريم أمسك عن الكلام بعد أن كلمهم طفلاً حتى بلغ ما يبلغ الغلمان ثم أنطقه الله بعد ذلك الحكمة والبيان فأكثر اليهود فيه وفي أمه من القول ، وكانوا يسمونه ابن البغية وذلك قوله تعالى :" وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما "
قال : فلما بلغ سبع سنين أسلمته أمه في الكتاب ، فجعل لا يعلمه المعلم شيئاً إلا بدره إليه ، فعلمه أبا جاد فقال عيسى ، ما أبو جاد ؟ فقال المعلم : لا أدري فقال عيسى : كيف تعلمني مالا تدري فقال المعلم : إذن فعلمني فقال له عيسى : فقم من مجلسك فقام فجلس عيسى مجلسه فقال : سلني ؟ فقال المعلم : فما أبو جاد ؟ فقال عيسى : الألف آلاء الله والباء بهاء الله والجيم بهجة الله وجماله فعجب المعلم من ذلك فكان أول من فسر أبا جاد
ثم ذكر أن عثمان سأل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن ذلك فأجابه على كل كلمة بحديث طويل موضوع لا يسأل عنه ولا يتمادى !
وهكذا روى ابن عدي من حديث إسماعيل بن عياش ، عن إسماعيل بن يحيى ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن مسعود ، عن مسعر بن كدام عن عطية ، عن أبي سعيد ، رفع الحديث في دخول عيسى إلى الكتاب وتعليمه المعلم معنى حروف أبي جاد وهو مطول لا يفرح به
ثم قال ابن عدي : وهذا الحديث باطل بهذا الإسناد لا يرويه غير إسماعيل وروى ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة قال : كان عبد الله بن عمر يقول : كان عيسى ابن مريم وهو غلام يلعب مع الصبيان فكان يقول لأحدهم : تريد أن أخبرك ما خبأت لك أمك ؟ فيقول : نعم فيقول : خبأت لك كذا وكذا فيذهب الغلام منهم إلى أمه فيقول لها أطعميني ما خبأت لي فتقول : وأي شيء خبأت لك ؟ فيقول :كذا وكذا فتقول له : من أخبرك ؟ فيقول : عيسى ابن مريم ليفسدنهم فجمعوهم في بيت وأغلقوا عليهم ، فخرج عيسى يلتمسهم فلم يجدهم فسمع ضوضاءهم في بيت فسأل عنهم فقالوا : إنما هؤلاء قردة وخنازير فقال : الله كذلك فكانوا كذلك رواه ابن عساكر
وقال إسحاق بن بشر ، عن جويبر ، ومقاتل ، عن الضحاك ، عن ابن عباس قال : وكان عيسى يرى العجائب في صباه إلهاماً من الله ، ففشا ذلك في اليهود وترعرع عيسى ، فهمت به بنو إسرائيل ، فخافت أمه عليه ، فأوحى الله إلى أمه أن تنطلق به إلى أرض مصر ، فذلك قوله تعالى :" وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين "
وقد اختلف السلف والمفسرون في المراد بهذه الربوة التي ذكر الله من صفتها أنها ذات قرار ومعين ، وهذه صفة غريبة الشكل ، وهي أنها ربوة وهو المكان المرتفع من الأرض الذي أعلاه مستو يقر عليه وارتفاعه متسع ، ومع علوه فيه عيون الماء المعين ، وهو الجاري السارح على وجه الأرض فقيل : المراد المكان الذي ولدت فيه المسيح وهو نخلة بيت المقدس ، ولهذا " ناداها من تحتها أن لا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا " وهو النهر الصغير في قول جمهور السلف ، وعن ابن عباس بإسناد جيد أنهار دمشق فلعله أراد تشبيه ذلك المكان بأنهار دمشق وقيل ذلك بمصر كما زعمه من زعمه من أهل الكتاب ومن تلقاه عنهم والله أعلم
وقيل هي الرملة
وقال إسحاق بنبشر : قال لنا إدريس عن جده وهب بن منبه ، قال : إن عيسى لما بلغ ثلاث عشرة سنة أمره الله أن يرجع من بلاد مصر إلى بيت إيليا قال فقدم عليه يوسف ابن خال أمه فحملهما على حمار حتى جاء لهما إيليا وأقام بها حتى أحدث الله له الإنجيل وعلمه التوراة وأعطاه إحياء الموتى وإبراء الأسقام والعلم بالغيوب مما يدخرون في بيوتهم وتحدث الناس بقدومه وفزعوا لما كان يأتي من العجائب ، فجعلوا يعجبون منه فدعاهم إلى الله ففشا فيهم أمره
ذكر خبر المائدة
ذكر خبر المائدة
قال الله تعالى :" إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين * قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين * قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين * قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين "
قد ذكرنا في التفسير الآثار الواردة في نزول المائدة عن ابن عباس وسلمان الفارسي وعمار بن ياسر وغيرهما من السلف
ومضمون ذلك : أن عيسى عليه السلام أمر الحواريين بصيام ثلاثين يوماً ، فلما أتموها سالوا من عيسى إنزال مائدة من السماء عليهم ليأكلوا منها وتطمئن بذلك قلوبهم أن الله قد تقبل صيامهم وأجابهم إلى طلبتهم ، وتكون لهم عيداً يفطرون عليها يوم فطرهم ، وتكون كافية لأولهم وآخرهم لغنيهم وفقيرهم ، فوعظهم عيسى عليه السلام في ذلك وخاف عليهم ألا يقوموا بشكرها ولا يؤدوا حق شروطها فأبوا عليه إلا أن يسأل لهم ذلك من ربه عز وجل
فلما لم يقلعوا عن ذلك قام إلى مصلاه ولبس مسحاً من شعر وصف بين قدميه وأطرق رأسه وأسبل عينيه بالبكاء وتضرع إلى الله في الدعاء والسؤال أن يجابوا إلى ما طلبوا
فأنزل الله تعالى المائدة من السماء والناس ينظرون إلها تنحدر بين غمامتين ، وجعلت تدنوا قليلاً قليلاً ، وكلما دنت سأل عيسى ربه عز وجل أن يجعلها رحمة لا نقمة وأن يجعلها بركة وسلامة فلم تزل تدنوا حتى استقرت بين يدي عيسى عليه السلام وهي مفطاة بمنديل فقام عيسى يكشف عنها وهو يقول : بسم الله خير الرازقين فإذا عليها سبعة من الحيتان وسبعة أرغفة ويقال : وخل ، ويقال : ورمان وثمار ، ولها رائحة عظيمة جداً ، قال الله كوني فكانت
ثم أمرهم بالأكل منها ، فقالوا : لا نأكل حتى تأكل فقال : إنكم الذين ابتدأتم السؤال لها ، فأبوا أن يأكلوا منها ابتداء ، فأمر الفقراء والمحاويج والمرضى والزمنى وكانوا قريباً من ألف وثلاثمائة فأكلوا منها فبرأ كل من به عاهة أ آفة أو مرض مزمن ، فندم الناس على ترك الأكل منها لما رأوا من إصلاح حال أولئك ثم قيل إنها كانت تنزل كل يوم مرة فيأكل الناس منها ، يأكل آخرهم كما يأكل أولهم حتى قيل إنها كان ياكل منها نحو سبعة آلاف
ثم كانت تنزل يوماً بعد يوم ، كما كانت ناقة صالح يشربون لبنها يوماً بعد يوم ثم أمر الله عيسى أن يقصرها على الفقراء أو المحاويج دون الأغنياء فشق ذلك على كثير من الناس وتكلم منافقوهم في ذلك ، فرفعت بالكلية ومسخ الذين تكلموا في ذلك خنازير
وقد روى ابن أبي حاتم وابن جرير جميعاً ، حدثنا الحسن بن قزعة الباهلي ، حدثنا سفيان ابن حبيب ، حدثنا سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة عن خلاس ، عن عمار بن ياسر ، عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال :" نزلت المائدة من السماء خبز ولحم وأمروا ألا يخونوا ولا يدخروا ولا يرفعوا لغد ، فخانوا وادخروا ورفعوا ، فمسخوا قردة وخنازير "
ثم رواه ابن جرير عن بندار ، عن ابن أبي عدي ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن خلاس ، عن عمار موقوفاً وهذا أصح وكذا رواه من طريق سماك ، عن رجل من بني عجل ، عن عمار موقوفاً وهو الصواب والله أعلم
وخلاس عن عمار منقطع ، فلو صح هذا الحديث مرفوعاً لكان فيصلاً في هذه القصة ، فإن العلماء اختلفوا في المائدة : هل نزلت أولاً ؟ فالجمهور أنها نزلت كما دلت عليها هذه الآثار كما هو المفهوم من ظاهر سياق القرآن ولا سيما قوله :" إني منزلها عليكم " كما قرره ابن جرير والله أعلم
وقد روى ابن جرير بإسناد صحيح إلى مجاهد وإلى الحسن بن أبي الحسن البصري أنهما قالا : لم تنزل وإنهم أبوا نزولها حين قال :" فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين " ولهذا قيل إن النصارى لا يعرفون خبر المائدة وليس مذكوراً في كتابهم ، مع أن خبرها مما تتوافر الدواعي على نقله والله أعلم
وقد تفصينا الكلام على ذلك في التفسير فليكتب من هناك ، ومن أراد مراجعته فلينظره من ثم ولله الحمد والمنة
فصل
قال أبو بكر بن أبي الدنيا : حدثنا رجل سقط اسمه ، حدثنا حجاج بن محمد ، حدثنا أبو هلال محمد بن سليمان ، عن بكر بن عبد الله المزفي قال : فقد الحواريون نبيهم عيسى فقيل لهم توجه نحو البحر ، فانطلقوا يطلبونه فسا انتهوا إلى البحر إذا هو يمشي على المائدة يرفعه الموج مرة ويضعه أخرى وعليه كساء مرتد بنصفه ومؤتزر بنصفه ، حق انتهى إليهم فقال له بعضهم ، قال أبو هلال ظننت أنه من أفاضلم : ألا أجيء إليك يا نبي الله ؟ قال : بلى قال : فوضع إحدى رجليه على الماء ثم ذهب ليضع الأخرق فقال : أوه غرقت يا نبي الله فقال :أرني يدك يا قصير الإيمان ، لو أن لابن آدم من اليقين قدر شعيرة مشى على الماء !
ورواه أبو سعيد عن الأعرابي ، عن إبراهيم بن أبي الجحيم ، عن سليمان بن حرب ، عن أبي هلال بن بكر بنحوه
ثم قال ابن أبي الدنيا : حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن سفيان ، حدثنا إبراهيم بن الأشعث ، عن ألفضيل بن عياش ، قال : قيل لعيسى ابن مريم : يا عيسى بأي شيء تمشي على الماء ؟ قال : بالإيمان واليقين قالوا : فإنا آمنا كما آمنت وأيقنا كما أيقنت قال : فامشوا إذن قال : فمشوا معه في الموج فغرقوا فقال لهم عيسى : مالم ؟ فقالوا : خفنا الموج قال :ألا خفتم رب الموج ؟ ! قال : فأخرجهم ثم ضرب بيده إلى الأرض فقبض بها ثم بسطها فإذا في إحدى يديه ذهب وفي الأخرى مدر- أو حصى - فقال ؟ أيهما أحلى في قلوبم ؟ قالوا : هذا الذهب قال : فإنها عندي سواء !
وقدمنا في قصة يحيى بن زكريا عن بعض السلف أن عيسى عليه السلام كان يلبس الشعر ويأكل من ورق الشجر ولا يأوي إلى منزل ولا أهل ولا مال ولا يدخر شيئا لغد قال بعضهم : كان يأكل من غزل أمه صلوات الله وسلامه عليه
وروى ابن عساكر عن الشعبي أنه قال : كان عيسى عليه السلام إذا ذكر عنده الساعة صاح ويقول لا ينبغي لابن مريم أن يذكر عنده الساعة ويسكت
وعن عبد الملك بن سعيد بن أبجر أن عيسى كان إذا سمع الموعظة صرخ صراخ الثكلى
وقال عبد الرزاق : أنبأنا معمر : حدثنا جعفر بن بلقان ، أن عيسى كان يقول : اللهم إني أصبحت لا أستطيع دفع ما أكره ولا أملك نفع ما أرجو ، وأصبح الأمر بيدي غيري ، وأصبحت مرتهنا بعملي فلا فقير افقر مني ؟ اللهم لا تشمت بي عدوي ولا تسؤ بي صديقي ، ولا تجعل مصيبتي في ديني ولا تسلط علي من لا يرحمني
قال الفضيل بن عياض عن يونس بن عبيد ، كان عيسى يقول : لا يصيب أحد حقيقة الإيمان حتى لا يبالي من أكل الدنيا !
قال الفضيل : وكان عيسى يقول : فكرت في الخلق فوجدت من لم يخلف أغبط عندي ممن خلق !
وقال إسحاق بن بشر ، عن هشام بن حسان ، عن الحسن ، قال : إن عيسى رأس الزاهدين يوم القيامة قال : وإن الفزارين بذنوبهم يحشرون يوم القيامة مع عيسى
قال : وبينما عيسى يوماً نائم على حجر قد توسده وقد وجد لذة النوم إذ مر به إبليس فقال : يا عيسى ألست تزعم أنك لا تريد شيئاً من عرض الدنيا ؟ فهذا الحجر من عرض الدنيا قال : فقام عيسى فأخذ الحجر فرمى به إليه ، وقال هذا لك من الدنيا !
وقال معتمر بن سليمان : خرج عيسى على أصحابه وعليه جبة صوف وكسان وتبان حافياً باكياً شعثاً مصفر اللون من الجوع يابس الشفتين من العطش فقال : السلام عليكم يا بني إسرائيل ، أنا الذي أنزلت الدنيا منزلتها بإذن الله ولا عجب ولا فخر ، أتدرون أين بيتي ؟ قالوا : أين بيتك يا روح الله ؟ قال : بيتي المساجد ، وطي الماء ، وأدامي الجوع ، وسراجي القمر بالليل ، وصلاتي في الشتاء مشارق الشمس ، وريحاني بقول الأرض ، ولباسي الصوف ، وشعاري خوف رب العزة ، وجلسائي الزمنى والمساكين ، أصبح وليس لي شيء وأمسي وليس لي شيء ، وأنا طيب النفس غير مكترث فمن أعنى مني وأربح ! رواه ابن عساكر
وروى في ترجمة محمد بن الوليد بن أبان بن أبي الحسن العقيلي المصري ، حدثنا هانئ ابن المتوكل الإسكندراني ، عن حيوة بن شريح ، حدثني الوليد بن أبي الوليد ، عن شفي بن ماتع ، عن أبي هريرة ، عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال : أوحى الله تعالى إلى عيسى : أن يا عيسى انتقل من مكان إلى مكان لئلا تعرف فتؤذى ، فوعزتي وجلالي لأزوجنك ألف حوراء ولألمن عليك أربعمائة عام
وهذا حديث غريب رفعه ، وقد يكون موقوفاً من رواية شفي ابن ماتع ، عن كعب الأحبار وأو غيره من الإسرائيلين والله أعلم
وقال عبد الله بن المبارك : عن سفيان بن عيينة ، عن خلف بن حوشب ، قال : قال عيسى للحواريين : كما ترك لكم الملوك الحكمة فكذلك فاتركوا لهم الدنيا
وقال قتادة : قال عيسى عليه السلام : سلوني فإني لين القلب وإني صغير عند نفسي
وقال إسماعيل بن عياش ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر قال : قال عيسى للحواريين : كلوا خبز الشعير واشربوا الماء القراح واخرجوا من الدنيا سالمين آمنين ، بحق ما أقول لكم إن حلاوة الدنيا مرارة الآخرة ، وإن مرارة الدنيا حلاوة الآخرة ، وإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين ، بحق ما أقول لكم إن شركم علام يؤثر هواه على عالمه يود أن الناس كلهم مثله وروى نحوه عن أبي هريرة
قال أبو مصعب عن مالك إنه بلغه أن عيسى كان يقول : يا نبي إسرائيل عليكم بالماء القراح والبقل البرير وخبز الشعير ، وإياكم وخبز البر فإنكم لن تقوموا بشكره
وقال ابن وهب ، عن سليمان بن بلال ، عن يحيى بن سعيد قال : كان عيسى يقول : اعبروا الدنيا ولا تعمروها وكان يقول : حب الدنيا رأس كل خطيئة ، والنظر يزرع في القلب الشهوة
وحكى وهيب بن الورد مثله وزاد : ورب شهوة أورثت أهلها حزناً طويلاً
وعن عيسى عليه السلام : يا ابن آدم الضعيف اتق الله حيث ما كنت ، وكن في الدنيا ضيفاً ، واتخذ المساجد بيتاً ، وعلم عيناك البكاء وجسدك الصبر وقلبك التفكر ، ولا تهتم برزق غد فإنها خطيئة
وعنه عليه السلام أنه قال : كما أنه لا يستطيع أحدكم أن يتخذ على موج البحر داراً فلا يتخذ الدنيا قراراً
وفي هذا يقول سابق البربري :
لكم بيوت بمستن السيوف وهل يبنى على الماء بيت أسه مدر
وقال سفيان الثوري : قال عيسى ابن مريم : لا يستقيم حب الدنيا وحب الآخرة في قلب مؤمن كما لا يستقيم الماء والنار في إناء
وقال إبراهيم الحربي عن داود بن رشيد ، عن أبي عبد الله الصوفي قال : قال عيسى : طالب الدنيا مثل شارب ماء البحر ، كلما ازداد عطشاً حتى يقتله
وعن عيسى عليه السلام : إن الشيطان مع الدنيا ومكره مع الماء وتزينه مع الهوى ، واستمكانه عند الشهوات
وبه قالت امرأة لعيسى عليه السلام : طوبى لحجر حملك ولثدي أرضعك فقال : طوبى لمن قرأ كتاب الله واتبعه
وعنه : طوبى لمن بكى من ذكر خطيئته وحفظ لسانه ووسعه بيته
وعنه : طوبى لعين نامت ولم تحدث نفسها بالمعصية وانتبهت إلى غير إثم
وعن مالك بن دينار قال : مر عيسى وأصحابه بجيفة فقالوا : ما أنتن ريحها ، فقال : ما أبيض أسنانها لينهاهم عن الغيبة
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا : يحدثنا الحسين بن عبد الرحمن ،عن زكريا بن عدي قال : قال عيسى ابن مريم : يا معشر الحواريين ارضوا بدني الدنيا مع سلامة الدين كما رضي أهل الدنيا بدني الدين مع سلامة الدنيا قال زكريا : وفي ذلك يقول الشاعر :
أرى رجالاً بأدنى الدين قد قنعوا ولا أراهم رضوا في العيش بالدون
فاستغن بالدين عن دنيا الملوك كما استغنى الملوك بدنياهم عن الدين
وقال أبو مصعب عن مالك قال عيسى ابن مريم عليه السلام : لا تكثروا الحديث بغير ذكر الله فتقسوا قلوبكم فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون ، ولا تنظروا في ذنوب العباد كأنكم أرباب وانظروا فيها كأنكم عبيد ، فإنما الناس رجلان معافى ومبتلى فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية
وقال الثوري : سمعت أبي يقول عن إبراهيم التيمي ، قال : قال عيسى لأصحابه : بحق أقول لكم من طلب الفردوس فخبز الشعير والنوم في المزابل مع الكلاب كثير
وقال مالك بن دينار : قال عيسى : إن أكل الشعير مع الرماد والنوم على المزابل مع الكلاب لقليل في طلب الفردوس
وقال عبد الله بن المبارك : أنبأنا سفيان ، عن منصور ، عن سالم بن أبي الجعد ، قال : قال عيسى : اعملوا لله ولا تعملوا لبطونكم ، انظروا إلى هذه الطير تغدو وتروح لا تحرث ولا تحصد والله يرزقها ، فإن قلتم نحن أعظم بطوناً من الطير فانظروا إلى هذه الأباقير من الوحوش والحمر فإنها تغدو لا تحرث ولا تحصد والله يرزقها
وقال صفوان بن عمرو : عن شريح بن عبد الله ، عن يزيد بن ميسرة ، قال : قال الحواريون للمسيح : يا مسيح الله انظر إلى مسجد الله ما أحسنه قال : آمين آمين بحق ما أقول لكم يترك الله من هذا المسجد حجراً قائماً إلا أهلكه بذنوب أهله ، إن الله لا يصنع بالذهب ولا الفضة ولا بهذه الأحجار التي تعجبكم شيئاً إن أحب إلى الله منها القلوب الصالحة وبها يعمر الله الأرض ، وبها يخرب الله الأرض إذا كانت على غير ذلك
وقال الحافظ أبو القاسم بن عساكر في تاريخه : أخبرنا أبو منصور بن محمد الصوفي : أخبرتنا عائشة بنت الحسن بن إبراهيم الوركانية ، قالت : حدثنا أبو محمد عبد الله بن عمر بن عبد الله ابن الهشيم إملاء ، حدثنا الوليد بن أبان إملاء ، حدثنا أحمد بن جعفر الرازي ، حدثنا سهيل بن إبراهيم الحنظلي ، حدثنا عبد الوهاب بن عبد العزيز ، عن المعتمر ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال :" مر عيسى عليه السلام على مدينة خربة ، فأعجبه البنيان فقال : أي رب مر هذه المدينة أن تجيبني ، فأوحى الله إلى المدينة : أيتها المدينة الخربة جاوبي عيسى قال : فنادت المدينة : عيسى حبيبي وما تريد مني ؟ قال : ما فعلت أشجارك وما فعل أنهارك وما فعل قصورك وأين سكانك ؟ قالت : حبيبي جاء وعد ربك الحق فيبست أشجاري ونشفت أنهاري وخربت قصوري ومات سكاني قال : فأين أموالهم ؟ فقالت : جمعوها من الحلال والحرام موضوعة في بطني ، لله ميراث السموات والأرض ، قال : فنادى عيسى عليه السلام : تعجبت من ثلاثة أناس : طالب الدنيا والموت يطلبه ، وباني القصور والقبور منزله ، ومن يضحك ملء فيه والنار أمامه ! ابن آدم لا بالكثير تشبع ولا بالقليل تقنع ، تجمع مالك لمن لا يحمدك وتقدم على رب لا يعذرك ، إنما أنت عبد بطنك وشهوتك ، وإنما تملأ بطنك إذا دخلت قبرك ، وأنت يا ابن آدم ترى حشد مالك في ميزان غيرك " هذا حديث غريب جداً وفيه موعظة حسنة فكتبناه لذلك
وقال سفيان الثوري عن أبيه ، عن إبراهيم التيمي ، قال عيسى عليه السلام : يا معشر الحواريين اجعلوا كنوزكم في السماء فإن قاب الرجل حيث كنزه
وقال ثور بن زيد ، عن عبد العزيز ، ظبيان قال : قال عيسى ابن مريم عليه السلام : من تعلم وعلم وعمل دعي عظيماً في ملكوت السماء
وقال أبو كريب : روي أن عيسى عليه السلام قال : لا خير في علم لا يعبر معك الوادي ويعبر بك النادي
وروى ابن عساكر بإسناد غرب عن ابن عباس مرفوعاً : أن عيسى قام في بني إسرائيل فقال : يا معشر الحواريين لا تحدثوا بالحكم غير أهلها فتظلموها ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم ، والأمور ثلاثة : أمر تبين رشده فاتبعوه وأمر تبين غيه فاجتنبوه ، وأمر اختلف عليكم فيه فردوا علمه إلى الله عز وجل
وقال عبد الرزاق : أنبأنا معمر ، عن رجل ، ، عن عكرمة قال : قال عيسى : لا تطرحوا اللؤلؤ إلى الخنزير فإن الخنزير لا يصنع باللؤلؤ شيئاً ، ولا تعطوا الحكمة من لا يريدها ، فإن الحكمة خير من اللؤلؤ ومن لا يريدها شر من الخنزير
وكذا حكي وهب وغيره عنه أنه قال لأصحابه : أنتم ملح الأرض فإذا فسدتم فلا دواء لكم وإن فيكم خصلتين من الجهل ، الضحك من غير عجب والصبحة من غير سهر
وعنه أنه قيل له : من أشد الناس فتنة ؟ قال : زلة العالم ، فإن العالم إذا زل يزل بزلته عالم كثير
وعنه أنه قال : يا علماء السوء جعلتم الدنيا على رءوسكم والآخرة تحت أقدامكم ، قولكم شفاء وعلمكم داء مثلكم مثل شجرة الدقلي تعجب من رآها وتقتل من أكلها
وقال وهب : قال عيسى : يا علماء السوء جلستم على أبواب الجنة فلا تدخلونها ولا تدعون المساكين يدخلونها ، إن شر الناس عند الله عالم يطلب الدنيا بعلمه
وقال مكحول : التقى يحيى وعيسى ، فصافحه عيسى وهو يضحك فقال له يحيى : يا ابن الخالة مالي أراك ضاحكاً كأنك قد أمنت ؟ فقال له عيسى : مالي أباك عابساً كأنك قد يئست ! فأوحى الله إليهما : إن أحبكما إلي أبشكما بصاحبه
وقال وهب بن منبه : وقف عيسى هو وأصحابه على قبر وصاحبه يدلي فيه ، فجعلوا يذكرون القبر وضيقه فقال : قد كنتم فيما هو أضيق منه في أرحام أمهاتكم ، فإذا أحب الله أو يوسع وسع
وقال أبو عمر الضرير : بلغني أن عيسى كان إذا ذكر الموت يقطر جلده دماً
والآثار في مثل هذه كثيرة جداً وقد أورد الحافظ ابن عساكر منها طرفاً صالحاً اقتصرنا على هذا القدر والله الموفق للصواب






ذكر صفة عيسى عليه السلام وشمائله وفضائله
ذكر صفة عيسى عليه السلام وشمائله وفضائله
قال الله تعالى :" ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة
قيل سمي المسيح لمسحه الأرض وهو سياحته فيها وفراره بدينه من الفتن في ذلك الزمان ، لشدة تكذيب اليهود له وافترائهم عليه وعلى أمه عليهما السلام وقيل لأنه كان ممسوح القدمين
وقال تعالى :" ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل " وقال تعالى :" وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس " والآيات في ذلك كثيرة جداً
وقد تقدم ما ثبت في الصحيحين :" ما من مولود إلا والشيطان يطعن في خاصرته حين يولد فيستهل صارخاً إلا مريم وابنها ، ذهب بطعن فطعن في الحجاب "، وتقدم حديث عمير ابن هانئ عن جنادة ، عن عبادة عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه قال :" من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبد الله ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته التي أقاها إلى مريم وروح منه ، والجنة حق والنار حق أخله الله الجنة على ما كان من العمل " رواه البخاري وهذا لفظه ، و مسلم
وروى البخاري و مسلم من حديث الشعبي ، عن أبي بردة بن أبي موسى ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :" إذا أدب الرجل أمته فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها فتزوجها كان له أجران ، وإذا آمن بعيسى ابن مريم ثم آمن بي فله أجران ، والعبد إذا اتقى ربه وأطاع مواليه فله أجران " هذا لفظ البخاري
وقال البخاري : حدثنا إبراهيم بن موسى ، أنبأنا هشام ، عن معمر ، وحدثني محمود : حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر ، عن الزهري ، أخبرني سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة قال : قال النبي (صلى الله عليه وسلم) :" ليلة أسري بي ولقيت موسى - قال : فنعته - فإذا رجل حسبته قال : مضطرب رجل الرأس كأنه من رجال شنوءة قال : ولقيت عيسى فنعته النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال : ربعة أحمر كأنما خرج من ديماس - يعني الحمام - ورأيت إبراهيم وأنا أشبه ولده به " الحديث
وقد تقدم في قصتي إبراهيم وموسى
ثم قال : حدثنا محمد بن كثير ، أنبأنا إسرائيل ، عن عثمان بن المغيرة ، عن مجاهد ، عن ابن عمر ، قال : قال النبي (صلى الله عليه وسلم) :" رأيت عيسى وموسى وإبراهيم ، فأما عيسى فأحمر جعد عريض الصدر وأما موسى فآدم جسيم سبط كأنه من رجال الزط " تفرد به البخاري
وحدثنا إبراهيم بن المنذر ، حدثنا أبو ضمرة : حدثنا موسى بن عقبة ، عن نافع ، قال : قال عبد الله بن عمر : ذكر النبي (صلى الله عليه وسلم) يوماً بين ظهراني الناس المسيح الدجال فقال :" إن الله ليس بأعور إلا أن المسيح الدجال أعور اليعن اليمنى كأن عينه عنبة طافية ، وأراني الليلة عند الكعبة في المنام فإذا رجل آدم كأحسن ما يرى من أدم الرجال تضرب لمته بين منكبيه فقلت من هذا ؟ فقالوا : المسيح ابن مريم ثم رأيت رجلاً وراءه جعداً قططاً أعور عين اليمنى كأشبه من رأيت بابن قطن واضعاً يده على منكبي رجل يطوف بالبيت فقلت من هذا ؟ فقالوا : المسيح الدجال "
ورواه مسلم من حديث موسى بن عقبة ثم قال البخاري : تابعه عبد الله بن نافع ثم ساقه من طريق الزهري عن سالم بن عمر قال الزهري : وابن قطن رجل من خزاعة هلك في الجاهلية
فبين صلوات الله وسلامه عليه صفة المسيحيين : ميسح الهدى ومسيح الضلالة ، ليعرف هذا إذا نزل فيؤمن به المؤمنون ويعرف الآخر فيحذره الموحدون
وقال البخاري : حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر ، عن همام بن منبه ، عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال :" رأى عيسى ابن مريم رجلاً يسرق فقال له : أسرقت ؟ قال : كلا والذي لا إليه إلا هو فقال عيسى : آمنت بالله وكذبت عيني " وكذا رواه مسلم عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق
وقال أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن سلمة ، عن حميد الطويل ، عن الحسن وغيره ، عن أبي هريرة قال : ولا أعلمه إلا عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال : " رأى عيسى رجلاً يسرق فقال : يا فلان أسرقت ؟ فقال : لا والله ما سرقت فقال : آمنت بالله وكذبت بصري "
وهذا يدل على سجية طاهرة ، حيث قدم حلف الله الرجل فظن أن أحداً لا يحلف بعظمة الله كاذباً على ما شاهده منه عياناً ، فقبل عذره ورجع على نفسه فقال : آمنت بالله أي صدقتك وكذبت بصري لأجل حلفك
وقال البخاري : حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا سفيان ، عن المغيرة بن النعمان ، عن سعيد ابن جبير ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :" تحشرون حفاة عراة غرلاً ثم قرأ :" كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين " فأول الخلق يكسى إبراهيم ، ثم يؤخذ برجال من أصحابي ذات اليمين وذات الشمال فأقول أصحابي فيقال : إنهم لن يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم فأقول كما قال العبد الصالح عيسى ابن مريم :" وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد * إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " " تفرد به دون مسلم من هذا الوجه
وقال أيضاً : حدثنا عبد الله بن الزبير الحميدي : حدثنا سفيان ، سمعت الزهري يقول : أخبرني عبد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس سمع عمر يقول على المنبر : سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول :" لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله "
وقال البخاري : حدثنا إبراهيم ، حدثنا جرير بن حازم ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال :" لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة : عيسى ، وكان في بني إسرائيل رجل يقال له جريح يصلي إذ جاءته أمه فدعته فقال :أجيبها أو أصلي ؟ فقالت : اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات وكان جريح في صومعة فعرضت له امرأة وكلمته فأبى فأتت راعياً فأمكنته من نفسها فولدت غلاماً فقيل لها : ممن ؟ قالت : من جريج فأتوه وكسروا صومعته فأنزلوه وسبه فتوضأ وصلى ثم أتى الغلام فقال : من أبوك يا غلام ؟ قال : فلان الراعي فقالوا : أنبني صومعتك من ذهب ؟ قال : لا ، إلا من طين وكانت امرأة ترضع ابناً لها في بني إسرائيل فمر بها رجل راكب ذو شارة فقالت : اللهم اجعل ابني مثله ، فترك ثديها وأقبل على الراكب فقال : اللهم لا تجعلني مثله ، ثم أقبل على ثديها يمصه قال أبو هريرة : كأني أنظر إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) يمص إصبعه ثم مر بأمة فقالت : اللهم لا تجعل ابني مثل هذه فترك ثديها فقال : اللهم اجعلني مثلها فقالت : لم ذلك فقال : الراكب جبار من الجبابرة ، وهذا الأمة يقولون سرقت وزنت ، ولم تفعل "
وقال البخاري : حدثنا أبو اليمان : حدثنا شعيب ، عن الزهري ، أخبرني أبو سلمة ، أن أبا هريرة قال : سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول :" أنا أولى الناس بابن مريم ، والأنبياء أولاد علات ليس بيني وبينه نبي "
تفرد به البخاري من هذا الوجه
ورواه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي داود الحفري ، عن الثوري عن أبي الزناد ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة
وقال أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان - وهو الثوري - عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " أنا أولى الناس بعيسى عليه السلام والأنبياء إخوة أولاد علات ، وليس بيني وبين عيسى نبي "
وهذا إسناد صحيح على شرطهما ولم يخرجوه من هذا الوجه وأخرجه أحمد عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن همام ، عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وسلم) بنحوه ، وأخرجه ابن حبان من حديث عبد الرزاق نحوه
قال أحمد : حدثنا يحيى ، عن أبي عروبة ، حدثنا قتادة ، عن عبد الرحمن بن آدم ، عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال :" الأنبياء إخوة لعلات ، ودينهم واحد وأمهاتهم شتى ، وأنا أولى الناس بعيسى ابن مريم لأنه لم يكن بيني وبينه نبي ، وإنه نازل فإذا رأيتموه فاعرفوه ، فإنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض ، سبط كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل بين مخصرتين فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويعطل الملل حتى تهلك في زمانه كلها غير الإسلام ، ويهلك الله في زمانه المسيح الدجال الكذاب ، وتقع الأمنة في الأرض حتى ترتع الإبل مع الأسد جميعاً والنمور مع البقر والذئاب مع الغنم ويلعب الصبيان والغلمان بالحيات لا يضر بعضهم بعضاً فيمكث ما شاء الله أن يمكث ، ثم يتوفى فيصلي عليه المسلمون ويدفنونه "
ثم رواه أحمد عن عفان ، عن همام ، عن قتادة ، عن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة فذكر نحوه وقال : فيمكث أربعين سنة ، ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون ، ورواه أبو داود عن هدبة ابن خالد ، عن هشام بن يحيى به نحوه
وروى هشام بن عروة ، عن صالح مولى أبي هريرة عنه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال :" فيمكث في الأرض أربعين سنة " وقد بينا نزوله عليه السلام في آخر الزمان في كتاب الملاحم كما بسطنا ذلك أيضاً في التفسير عند قوله تعالى في سورة النساء :" وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا " وقوله :" وإنه لعلم للساعة " الآية وأنه ينزل على المنارة البيضاء بدمشق وقد أقيمت صلاة الصبح فيقول له إمام المسلمين : تقدم يا روح الله فصل فيقول : لا ، بعضكم على بعض أمراء مكرمة الله هذه الأمة ، وفي رواية فيقول له عيسى : إنما أقيمت الصلاة لك ، فيصلي خلفه ، ثم يركب ومعه المسلمون في طلب المسيح الدجال فيلحقه عند باب لد فيقتله بيده الكريمة
وذكرنا أنه قوي الرجاء حتى بنيت هذه المنارة الشرقية بدمشق التي هي من حجارة بيض ، وقد بنيت أيضاً من أموال النصارى حين حرقوا التي هدمت وما حولها ، فينزل عليها عيسى ابن مريم عليه السلام فيقتل الخنزير ويكسر الصليب ولا يقبل من أحد إلا الإسلام ، وأنه يخرج من فج الروحاء حاجاً أو معتمراً أو لثنتيهما ، ويقيم أربعين سنة ، ثم يموت فيدفن فيما قيل في الحجرة النبوية عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وصاحبيه
وقد ورد ذلك حديث ذكره ابن عساكر في آخر ترجمة المسيح عليه السلام في كتابه عن عائشة مرفوعاً ، أنه يدفن مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأبي بكر وعمر في الحجرة النبوية ، ولكن لا يصح إسناده
وقال أبوعيسى الترمذي : حدثنا زيد بن أخزم الطائي ، حدثنا أبو قتيبة مسلم بن قتيبة ، حدثني أبو مودود المدني ، حدثنا عثمان بن الضحاك ، عن محمد بن يوسف بن عبد الله ابن سلام ، عن أبيه ، عن جده قال : مكتوب في التوراة : صفة محمد وعيسى ابن مريم عليهما السلام يدفن معه قال أبو مودود ، وقد بقي من البيت موضع قبر
ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن كذا قال : والصواب الضحاك بن عثمان المدني
وقال البخاري هذا الحديث لا يصح عندي ولا يتابع عليه
وروى البخاري عن يحيى بن حماد ، عن أبي عوانة ، عن عاصم الأحول ، عن أبي عثمان النهدي ، عن سلمان قال : الفترة ما بين عيسى ومحمد (صلى الله عليه وسلم) ستمائة سنة ، وعن قتادة : خمسمائة وستون سنة وقيل خمسمائة وأربعون سنة وعن الضحاك أربعمائة وبعض وثلاثون سنة والمشهور ستمائة سنة ، ومنهم من يقول ستمائة وعشرون سنة بالقمرية ، ليكون ستمائة الشمسية والله أعلم
وقال ابن حبان في صحيحه : ذكر المدة التي بقيت فيها أمة عيسى على هديه : حدثنا أبو يعلى ، حدثنا أبو همام ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن الهيثم بن حميد ، عن الوضين بن عطاء ، عن نصر بن علقمة ، عن جبير بن نفير ، عن أبي الدرداء ، قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " لقد قبض الله داود من بين أصحابه فما فتنوا ولا بدلوا ولقد مكث أصحاب المسيح على سنته وهديه مائتي سنة "
وهذا حديث غريب جداً ، وإن صححه ابن حبان
وذكر ابن جرير عن محمد بن إسحاق ، أن عيسى عليه السلام قبل أن يرفع وصى الحواريين بأن يدعوا الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له وعين كل واحد منهم إلى طائفة من الناس في إقليم من الأقاليم من الشام وبلاد المغرب ، فذكروا أنه أصبح كل إنسان منهم يتكلم بلغة الذين أرسله المسيح إليهم
وذكر غير واحد أن الإنجيل نقله عنه أربعة : لوقا ومتى ومرقس ويوحنا ، وبين هذه الأناجيل الأربعة تفاوت كثير بالنسبة إلى كل نسخة ونسخة ، وزيادات كثيرة ونقص بالنسبة إلى أخرى ، وهؤلاء الأربعة منهم اثنان ممن أدرك المسيح وراءه وهما متي ويوحنا ، ومنهم اثنان من أصحابه وهما مرقس ولوقا
وكان ممن آمن بالمسيح وصدقه من أهل دمشق رجل يقال له ضينا ، وكان مختفيا في مغارة داخل الباب الشرقي قريباً من الكنيسة المصلبة خوفاً من بولس اليهودي ، وكان ظالماً غاشماً مبغضا للمسيح ولما جاء به ، وكان قد حلق رأس ابن أخيه حين آمن بالمسيح وطاف به في البلد ثم رجمه حتى مات رحمه الله
ولما سمع بولص أن المسيح عليه السلام قد توجه نحو دمشق جهز بغالة وخرج ليقتله ، فتلقاه عند كوكبا ، فلما واجه أصحاب المسيح جاء إليه ملك فضرب وجهه بطرف جناحه فأعماه ، فلما رأى ذلك وقع في نفسه تصديق المسيح فجاء إليه واعتذر مما صنع ، وآمن به فقبل منه وسأله أن يمسح عينيه ليرد الله عليه بصره ، فقال اذهب إلى ضينا عندك بدمشق في طرف السوق المستطيل من المشرق فهو يدعو لك فجاء إليه فدعا فرد عليه بصره وحسن إيمان بولص بالمسيح عليه السلام أنه عبد الله ورسوله وبنيت له كنيسته باسمه فهي كنيسة بولص المشهورة بدمشق من زمن فتحها الصحابة رضي الله عنهم حتى خرجت




 

رد مع اقتباس
قديم 08-27-2010, 04:22 AM   #28
فريق المتابعة والتنظيم


الصورة الرمزية رمسيس
رمسيس متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 882
 تاريخ التسجيل :  Apr 2009
 أخر زيارة : 06-27-2024 (12:40 PM)
 المشاركات : 3,500 [ + ]
 التقييم :  309
 الدولهـ
Saudi Arabia
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Sienna
 

افتراضي



فصل اختلف أصحاب المسيح عليه السلام بعد رفعه إلى السماء
فصل اختلف أصحاب المسيح عليه السلام
بعد رفعه إلى السماء
اختلف أصحاب المسيح عليه السلام بعد رفعه إلى السماء فيه على أقوال ، كما قاله ابن عباس وغيره من أئمة السلف كما أوردناه عند قوله :" فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين "
قال ابن عباس وغيره : قال قائلون منهم : كان فينا عبد الله ورسوله فرفع إلى السماء وقال آخرون : هو الله وقال آخرون هو ابن الله
فالأول هو الحق والقولان الآخران كفر عظيم ، كما قال :" فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم "
وقد اختلفوا في نقل الأناجيل على أربعة أقاويل ما بين زيادة ونقصان وتحريف وتبديل
ثم بعد المسيح بثلاثمائة سنة حدثت فيه الطامة العظمى والبلية الكبرى اختلف البتاركة الأربعة وجميع الأساقفة والقساوسة والشمامسة والرهابين في المسيح على أقوال متعددة لا تنحصر ولا تنضبط ، واجتمعوا وتحاكموا إلى الملك قسطنطين باني القسطنطينية وهم الجمع الأول ، فصار الملك إلى قول أكثر فرقة اتفقت على قول من تلك المقالات ، فسموا الملكية ودحض من عداهم وأبعدهم ، وتفردت الفرقة التابعة لعبد الله بن أريوس الذي ثبت على أن عيسى عبد من عباد الله ورسول من رسله فسكنوا البراري والبوادي وبنوا الصوامع والديارات والقلايات ، وقنعوا بالعيش الزهيد ولم يخالطوا أولئك الملل والنحل وبنت الملكية الكنائس الهائلة ، عمدوا إلى ما كان من بناء اليونان فحولوا محاريبها إلى الشرق وقد كانت إلى الشمال إلى الجدي
بيان بناء بيت لحم والقمامة
بيان بناء بيت لحم والقمامة
وبنى الملك قسطنطين بيت لحم على محل مولد المسيح ، وبنت أمه هيلانة القمامة ، يعني على قبر المصلوب وهم يسلمون لليهود أنه المسيح
وقد كفرت هؤلاء وهؤلاء ووضعوا القوانين والأحكام ومنها مخالف للعتيقة التي هي التوراة ، وأحلوا أشياء هي حرام بنص التوراة ومن ذلك الخنزير ، وصلوا إلى المشرق ولم يكن المسيح صلى إلا إلا صخرة بيت المقدس ، وكذلك جميع الأنبياء بعد موسى ، ومحمد خاتم النبيين صلى إليها بعد هجرته إلى المدينة ستة عشر - أو سبعة عشر - شهراً ثم حول إلى الكعبة التي بناها إبراهيم الخليل
وصوروا الكنائس ولم تكن مصورة قبل ذلك ، ووضعوا العقيدة التي يحفظها أطفالهم ونساؤهم ورجالهم التي يسمونها بالأمانة ، وهي في الحقيقة أكبر الكفر والخيانة
وجميع الملكية والنسطورية أصحاب نسطورس أهل المجمع الثاني ، واليعقوبية أصحاب يعقوب البراذعي أصحاب المجمع الثالث ، يعتقدون هذه العقيدة يختلقون في تفسيرها
وها أنا أحكيها - وحاكي الكفر ليس بكافر لابث - على ما فيها من ركة الألفاظ وكثيرة الكفر والخبال المفضي بصاحبه إلى النار ذات الشواط فيقولون:
نؤمن بإله واحد ضابظ الكل خالق السموات والأرض كل ما يرى وكل ما لا يرى ، وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الأب قبل الدهور نور من نور ، إليه حق من إله حق ، مولود غير مخلوق مساو للأب في الجوهر الذي كان به كل شيء ، من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من روح القدس ومن مريم العذراء وتأنس وصلب على عهد ملاطس النبطي وتألم وقبر وقام في اليوم الثالث كما في الكتب وصعد إلى السماء وجلس على يمين الأب ، وأيضاً فسيأتي بجسده ليدبر الأحياء والأموات الذي لا فناء لملكه ، وروح القدس الرب المحيي المنبثق من الأب مع الأب ، والابن مسجود له وبمجد الناطق في الأنبياء كنيسة واحدة جامعة مقدسة يهولية ، واعترف بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا وأنه حي قيامة قيامة الموتى وحياة الدخر العتيد كونه آمين


إنتهــــــــــــــــــــى ....


 

رد مع اقتباس
قديم 10-06-2011, 11:29 PM   #29
عضو سوبر


الصورة الرمزية عادل المقبل
عادل المقبل غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 2379
 تاريخ التسجيل :  Oct 2011
 أخر زيارة : 06-20-2015 (01:26 AM)
 المشاركات : 1,537 [ + ]
 التقييم :  13
 MMS ~
MMS ~
لوني المفضل : Cadetblue
 

افتراضي رد: ^^ قصـص الأنبيـــاء ^^



جزك خير على القصة


 

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 05:03 PM

Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Ads Management Version 3.0.1 by Saeed Al-Atwi

HêĽм √ 3.1 BY: ! ωαнαм ! © 2010
جميع الحقوق محفوظه0لموقع سلايل عبس

جميع ما يكتب في المنتدى لايمثل الاراي كاتبه

a.d - i.s.s.w

اتصل بنا تسجيل خروج تصميم: حمد المقاطي