سعاد
ذكر أن معاوية بن أبي سفيان جلس ذات يوم بمجلس كان له بدمشق علي قارعة الطريق وكان المجلس مفتّح الجوانب لدخول النسيم وبينما هو في مجلسه ذاك رأي رجلا يمشي حافيا مسرعا في يوم شديد الحر . فقال معاوية لجلسائه لم يخلق الله ممن أحتاج إلي نفسه في مثل هذا اليوم .
ثم قال يا غلام سر إليه وأكشف عن حاله فوالله إن كان فقيرا لأغنينه وإن كان شاكيا لأنصفنّه . فجيء به أمام معاوية فسلم ثم أنشد يقول ..
معاوي يا ذا العلم والحلم والفضل ** ويا ذا الندي والجود والنابل الجزل
أتيتك لمّا ضاق في الأرض مذهبى** فيا غيث لا تقطع رجائي من العدل
وُجدّ ليّ بإنصافٍ من الجائر الذي ** شواني شّياً كان أيسره قتلي
سباني سعاد وانبري لخصومتي ** وجار ولم يعدل واغصبني أهلي
قصدت لأرجو نفعه فأثابني** بسجن وأنواع العذاب مع الكبل
أغثني جزاك الله عني جنة ** فقد طار من وجد ٍ بسعدي لها عقلي
فلما فرغ من شعره قال له معاوية أراك تشتكي عاملا ولم ُتسمّه لنا قال الرجل هو والله ابن عمك مروان بن الحكم. قال كانت لي زوجة كلفت بها من كمال جمالها وعقلها فبقيت معها زمانا في أصلح حال وأنعم بال وكانت ليّ صرمة من إبل وشويهات فكنت أعولها ونفسي فوقع عليها داء فهلكت جميعها ثم ساءت حالي فلمّا بلغ ذلك أباها حال بيني وبينها وأنكرني وجحدني فجئت إلي مروان مشتكيا عمي فبعث إليه وسأله مروان لم حلت بين أبن أخيك وزوجه ؟ فأنكر الرجل وقال ليس له عندي زوجة ولم أزوجه من ابنتي قط . قلت أنا راض بحكم الجارية فجيء بالزوجة فلما وقفت بين يدي مروان ونظر إلي حسنها وقع هواها في نفسه فأنتهرني وأمر بي إلي السجن . ثم قال لعمّي هل لك أن تزوجها منّي وأنقدك ألف دينار وازيدك عشرة آلاف درهم وأنا اضمن طلاقها ؟ قال له أبوها إن فعلت ذلك زوجتها منك . فلما كان الغد بعث اليّ وأمرني أن أطلق زوجتي والا فانه قاطع رأسي فخشيت علي نفسي من غضبه فطلقتها وتزوجها مروان ثم أنشد قائلا :
في القلب مني نار ** والنار فيه الدمار
والجسم مني سقيم ** فيه الطبيب يحار
والعين تهطل دمعاً ** فدمعها مـدرار
حملت منه عظيماً ** فما عليه اصطبار
فليس ليلـي لـيلٌ ** ولا نهاري نهـار
فأرحم كئيبا حزينا ** فؤاده مستطار
أردد عليّ سعادي ** يثيبك الجبّار
ثم خرّ الرجل مغشيا عليه فنظر إليه معاوية وقال : إعتدي والله مروان بن الحكم ضرارا في حدود الدين ثم أمر بدواة وقرطاس فكتب إلي مروان . بلغني أنك اعتديت علي رعيتك وانتهكت حرمة رجل من المسلمين وإنما الوالي كالراعي وكان عليك أن تغض بصرك وشهواتك وتزجر نفسك عن لذاتك ثم ختم بهذه الأبيات .
ولّيت ويحك أمرا لسـت تحكمه ** فأستغفر الله من فعل أمريء زاني
قد كنت عندي ذا عقل وذا لب ** مع القراطيس تمثالا وفرقان
حتى أتانا الفتي العذري منتحبا ** يشكو إلينا ببث ثم أحزان
أعطي الإله يمينا لا أكفرها ** حقا وأبرأ من ديني ودياني
إن أنت خالفتني فيما كتبت به ** لأجعلنّك لحما بين عقباني
طلّق سعاد وعجلها مجهزة ** مع الكميت ومع نصر بن ذبيان
فما سمعت كما بلغت في بشر ** ولا كفعلك حقا فعل إنسان
فأختر لنفسك إمّا أن تجود بها ** أو أن تلاقي المنايا بين أكفان
وما أن وقع الكتاب بين يدّي مروان حتى صار يبكي وينتحب فرأته سعاد وسألته عمّا يبكيه فحكي لها عن كتاب الخليفة وأمره أن أطلقك فطلقها وأرسلها إلي معاوية وكتب يقول :
لاتعجلنّ أمير المؤمنين فقد ** أوفي بنذرك في رفق وإحسان
وما ركبت حراما حين أعجبني ** فكيف أدعي باسم الخائن الزاني
أعذر فأنك لو أبصرتها لجرت ** منك المآقي علي أمثال إنسان
فسوف يأتيك شمس لا يعادلها ** عند الخليفة إنس ولا جان
لولا الخليفة ما طلقتها أبدا ** حتى أضمّن في لحد وأكفان
علي ُسعاد سَلام من فتيً قلق ٍ ** حتى خلّفته بأوصاب ٍ وأحزان
فلمّا وصل الكتاب إلي الخليفة قرأه وقال : أحسن والله في هذه الأبيات وأساء إلي نفسه . ثم أمر بالجارية فأدخلت إليه فإذا هي رعبوية لا تبقي لناظرها عقلا من حسنها وكمالها فاستنطقها فإذا هي أفصح نساء العرب فأمر بزوجها فلما وقف بين يديه قال له معاوية : هل لك عنها من سلو وأعوضك عنها بثلاث جوار أبكار مع كل جارية ألف درهم وعلي كل واحدة عشر خلع من الخزّ والديباج والحرير وأجعل لك من الصلات والنفقات . فما أن أتم الأمير كلامه حتى خرّ الفتي مغشيا عليه فلمّا
أفاق قال : أعوذ بعدلك يا أمير المؤمنين من جور مروان . ثم أنشأ يقول :
لا تجعلنّي هداك الله مـن ملك ** كالمستجير من الرمضاء بالنار
أردد سعاد علي حران مكتئب ** يمسي ويصبح في همّ وتذكار
والله لا أنسي محبتها ** حتى أغيّبُ في قبري وأحجاري
كيف السلو وقد هام الفؤادُ بها ** فإن فعلتُ فأني غيرُ كفّار ِ
فأجمل بفضلك وافعل فعل ذي كرم ٍ** لا فعل غيرُك فعل اللؤم والعار
ثم قال والله يا أمير المؤمنين لو أعطيتني كل ما احتوت الخلافة ما رضيت دون سعاد . ولكن الطمع كان قد دخل قلب الخليفة فلم يعر الفتي إهتماما فالتفت إلي الجارية ليسمع رأيها خاصة بعد أن علم أنها مطلقة ثم قال للشاب نخيرها بيننا فقبل الشاب. فتحول معاوية إليها وقال: ايّنا أحب إليك : أمير المؤمنين في عزه وشرفه وقصوره , أو مروان في غصبه وإعتدائه أو هذا الإعرابي في جوعه وإطماره ؟ فأشارت الجارية إلي ابن عمها وأنشدت تقول :
هذا وإن كان في جوع وإطمار ** أعزّ عندي من أهلي ومن جاري
وصاحب التاج أو مروان عامله ** وكل ذي درهم منهم ودينار
ثم قالت : لست والله يا أمير المؤمنين لحدثان الزمان بخاذلته ولقد كانت ليّ معه صحبة جميلة , وأنا أحق من صبر علي السراء والضراء وعلي الشدة والرخاء وعلي العافية والبلاء . فعجب معاوية من عقلها وكمالها ومروءتها وأمر لها بعشرة آلاف دينار وردّها الي زوجها .
المصدر : اخبار النساء - ابن الجوزى
|